أعمال الدماغ؛ فلو أن فيهم شاعرًا لأفسد عليهم ما تأولوه واستخرج من رأسه الحقيقة، فإنما الشاعر ملهم، وكأنما تحدث نفسه في بعض أطوارها العصبية من جهة الغيب.
وإذا رجعنا إلى العقل ورأيه في استبانة هذا الشكل، وضربنا منه شبهًا مما يضرب الطبيعيون لله من أمثالهم إذا تناولوا البحث فيما هو من علم الله، قلنا: كنا من العقل. وصار إلى العقل. وليس شيء فوق العقل إلا لأنه لم يرتفع إليه بعد. لما صدرنا عن هذا العقل، إلا بالبيان الغامض، وبالرأي المشتبه، وبما يكون العاقل فيه كالمتعلل أو المتمحل له، وكشف لنا العقل عن هذا السر بسر مثله، لا يقضي هو فيه ولا ينبغي صدق أسبابه إذ يحيلنا على ما في الطبيعة من ذلك وأشباهه، فإن الإلهام أقدم منه في الوجود وأظهر منه أثرًا، وأوضح منه سنة؛ وما بالعقل يبني الطائر عشه ويقطع بعض الطير إلى وطنه من أقاصي الأرض أو يجيء من غايته، ولا بالعقل يصنع النمل ما يصنع ويأتي النحل ما يأتيه من دقائق الهندسة وغير الهندسة١؛ إلى أمثال لذلك كثيرة، ولا أخذت هذه الأحياء الطبيعية عن الإنسان ولكن الإنسان هو أخذ عنها واهتدى بهديها! واتجه بعقله فيما وجهته إليه! ولو أن في رأس النملة عقلًا تدرك به ما تأتي وما تدع، وتخرج به مما تعرف إلى ما تجهل، وتستعمله مع حذقها الطبيعي فيما يستعمل العقل له، إذن لما جلس في كرسي أكبر علماء الاقتصاد في هذه الأرض كلها إلا نملة من النمل.
بيد أن الإلهام طبقة فوق العقل، ولهذا كان فوق الإرادة أيضًا، وهو محدود في الإنسان والحيوان جميعًا؛ أما هذا "أي: الحيوان" فلا يتصرف فيه ولكن يتصرف به، وبذا لا يكون أبدًا إلا كما هو، ولا يعطي الإرادة المطلقة؛ لأنها دون الإلهام. وأما ذلك "أي: الإنسان" فلا يلقاه إلا في أحوال شاذة من أحوال النفس، وبذا لا يكون أبدًا غير من هو، ولا يسلب الإرادة؛ لأن الإلهام فوقها.
ولو استطاع الناس يومًا أن يتصرفوا بالإلهام كما يتصرفون بالعقل، على أن يكون لهم الاثنان جميعًا، فيذهب كلاهما في مذهبه، ويتيسرون للأداة التي تخطئ وتصيب، والأداة التي تصيب ولا تخطئ لتفاوت الأمر تفاوتًا قبيحًا، ولما بقي في الأرض إنسانًا يسمى إنسانًا، ولكن الله تعالى يقلب أفئدتهم، وأبصارهم، فهذه للعقل، وتلك للإلهام، وكل يغني شأنه {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} !
وعلى هذا الوجه الذي بسطناه من أمر الإلهام والتحديث يكون وحي السياسة المنطقية التي أومأنا إليها وهي في لغة كل أمة أبلغ البلاغة، غير أنها في القرآن الكريم مما يعجز الطوق، ولا تحتمله قوة النبوغ الإنساني، فقد أحكمت في آياته إحكامًا أظهرها مخلوقة خلقًا إلهيا، ولا مصنوعة صنعة إنسانية، وجعل كل آية منها كأنها في الكلام نفس كلامية.
١ لهذه الحشرات فنون هندسية وسياسية واجتماعية وحربية واقتصادية إلخ، وهي وحدها تؤكد للناس أن المعجزة لا حجم لها؛ فقد تكون في حجم الشمس، وقد تكون في حجم النملة، ذاهبة إلى أكثر؛ أو راجعة إلى أقل الأقل!