للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا نظن بتة أن عربيا يطمع في مثل ما جاء به أو يطوعه له الوهم، مهما بلغ من سمو فطرته ورقة حسه، ومن بصره بطرق الوضع التركيبي. ونفاذه في أسرار البيان وتقليب أوضاع اللغة، فإن الشأن ليس في هذه اللغة ومتعلقاتها بمقدار ما هو في التوفيق بين أجزاء الشعور وأجزاء العقل على أتمها في الجهتين، وهذا باب لا ينفذ فيه إلا من كان شعوره وعقله وبيانه فوق الفكرة في أكمل ما يتهيأ لها من كمال الحقيقة الإنسانية التي تجمع تلك الصفات الثلاث: "البيان والعقل والشعور" والتي يقال لها من أجل ذلك: "النفس الناطقة" وليس في الناس جميعًا من يصح أن يقال فيه إنه فوق الفطرة بالمعنى الصحيح، وإن كان هو بسمو فكرته فوق الناس.

ولو ذهبت تعتبر القرآن كله لرأيت تلك الطريقة فيه أظهر الوجوه التي تبينه من كلام الناس وتجعله قبيلًا وحده، فإن لبلغاء الناس كلامًا جيدًا في كل أبواب البيان، بيد أنك حين تأخذه متفاوتًا في أجزاء تلك السياسة المنطقية، وحين تدعه متفاوتًا في طريق النظم التي خرج بها القرآن كما عرفت من قبل: فلا هو من ذلك في نسق ولا طريقة.

وما نشك على حال أن فصحاء العرب وأهل البلاغة فيهم قد أدركوا بفطرتهم هذه الطريقة المعجزة التي تنصرف إلى وجه ثم تجيء من وجه آخر، ولا أنهم قد عرفوا أن هذا مما لا تقوم به البلاغة وضروبها، وأن غاية كد العقل في مثله أن يبعد بالمعنى عن صنعة اللسان، وغاية كد اللسان أن يدخل الضيم فيه على صنعة العقل، فإن دق المعنى ولطفت مذاهبه وأحكمت الحيلة في تصريفه، قصر عنه البيان الذي ألفوه مذهبًا لفظيا، وعرفوه افتنانًا في الصنعة والتركيب، كما بسطناه في مواضع كثيرة، وإن صرح المعنى واستبان ولانت أعطافه وجاء على نسقهم في المحاورة والمخاطبة خرج على قدر ذلك وغلبت عليه الألفاظ ولم يكن بتلك المنزلة.

وهذا بعض ما أيأسهم من المعارضة تيقنًا أنه لا قبل لهم بها، واستبصارا في حقيقة هذا الكلام، وأنه مما لا يستشري الطمع فيه، وأنه وحي يوحى؛ وهو عينه أيضًا بعض ما اجتذبهم إليه وعطفهم عليه، حتى كان بلغاؤهم يستمعونه وتصغي إليه أفئدتهم، ثم يتلاومون على ذلك؛ كما مر في خبر أبي جهل وصاحبيه، وحتى قالوا كما حكى الله عنهم وأسجله في كتابه ليكون ثبتًا تاريخيا للعقل الإنساني: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فجعلوا كل أمرهم وأمره في آذانهم كما ترى، وما هي إلا سبيل الكلام إلى النفس؛ وكأنهم أقروا أنهم المغلوبون ما سمعوه١، وليس في البيان عما نحن فيه أبين من هذا إخبارًا عن حقيقة أو حقيقة من الخبر٢ أو خبرًا حقا.

وعلى تأويل ما عرفته من هذه السياسة المنطقية، تحمل كلمة الوليد بن المغيرة المخزومي في خبره المشهور: فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه


١ أي: ما داموا يسمعونه؛ وقد مرت الإشارة إلى ذلك في موضع سبق.
٢ لا يفوتك أن الآية قد سمعها العرب أنفسهم وجرت على ألسنتهم، وهي ليست من الأخبار بالغيب، ولكنها خبر عما قاله بعضهم وسمعه بعضهم؛ فذلك نص تاريخي قاطع في صحة الخبر نص قاطع فيما ذهبنا إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>