للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا ليعطوكه لئلا تأتي محمدًا لتعرض لما قاله. فقال الوليد: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا. قال أبو جهل: فقيل فيه قولًا يبلغ قومك أنك كاره له، قال: وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن١، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا؛ ووالله إن لقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: فدعني حتى أفكر. فلما فكر قال: "هذا سحر يؤثر" يأثره عن غيره.

ولما اجتمعت قريش عند حضور الموسم قال لهم الوليد: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" رأيًا لا يكذب بعضكم بعضًا. فقالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، ولا هو بزمزمته ولا سجعه. قالوا: مجنون، قال: ما هو بمجنون ولا بخنقه، ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده. قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه لا يصدق، وإن أقرب القول إنه ساحر، وإنه سحر يفرق به بين المرء وابنه والمرء وأخيه، والمرء وزوجته، والمرء وعشيرته. فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس. ا. هـ.٢ فتأمل كيف وصف تأثير القرآن في النفس العربية، حتى ينتزع الرجل من أهله وعشيرته وخاص أهله وعشيرته انتزاعًا كأنه مسلوب العقل، فلا يتمكث ولا يلوي على شيء، وإذن ذلك الكلام كله لو أريد إجماله لم تسعه غير هاتين الكلمتين: "السياسة المنطقية"٣.

ولو أنعمت على تأمل هذه الجهة لانكشف لك السبب الذي من أجله لا نرى في كل ما يؤثر عن أهل هذه اللغة قولًا معجزًا، ولو اعترضت كثيرًا وكثيرًا من الجيد الرائع في الكلام، وقرنت بعضه إلى


١ تجد بسط هذا في باب الرواية في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب.
٢ تختلف ألفاظ الروايات التي وردت في هذا المعنى وما قبله زيادة ونقصانًا، ولكن مرجعها كلها إلى شيء واحد، وقد نزلت في الوليد بعد تفكيره وقوله في القرآن إنه سحر آيات في سورة المدثر، وهي قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى ما بعدها من السورة. فذلك نص في ثبوت القول، والثقول نص في ثبوت معناه، والمعنى في هذا الباب شاهد قاطع.
٣ رأينا لبعض علماء الأندلس كلمة حسنة تتم بتحصيلها الفائدة قال: إن أعظم المعجزات وأوضحها دلالة: القرآن الكريم؛ لأن الخوارق في الغالب مغايرة للوحي الذي يتلقاه النبي وتأتي به المعجزة شاهدة، والقرآن هو نفسه الوحي المدعى، وهو الخارق المعجز، فدلالته في عينه لا يفتقر إلى دليل أجنبي عنه، فهو أوضح دلالة، لاتحاد الدليل والمدلول فيه. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحي إلي، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة".
يشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوة الدلالة، وهو كونها نفس الوحي، كان المصدق لها أكثر. ا. هـ.
قلنا: وهذا الحديث يجمع كل ما قدمناه من القول في إعجاز القرآن؛ لأنه وحي بمعانيه وألفاظه، فهو بائن بنفسه من الكلام الإنساني، ولا بد أن يكون فائدة للناس كافة ليعملوا، وصادقًا على الناس كافة ليستفيدوا، ومعجزًا للناس كافة ليصدقوا.

<<  <  ج: ص:  >  >>