للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال ناس: البكوء: القلة، وأصل ذلك من اللبن، فقد جعل صفة الأنبياء قلة الكلام، ولم يجعله من إيثار الصمت ومن التحصيل وقلة الفضول قلنا: ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن القلة من عجز في الخلقة. وقد يحتمل ظاهر الكلام الوجهين جميعًا، وقد يكون القليل من اللفظ يأتي على الكثير من المعاني، والقلة تكون من وجهين: أحدهما من جهة التحصيل والإشفاق من التكلف وعلى البعد من الصنعة ومن شدة المحاسبة وحصر النفس، حتى يصير بالتمرين والتوطين إلى عادة تناسب الطبيعة.

وتكون من جهة العجز، ونقصان الآلة، وقلة الخواطر، وسوء الاهتداء إلى جياد المعاني، والجهل بمحاسن الألفاظ، ألا ترى أن الله قد استجاب لموسى على نبينا وعليه السلام حين قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} .

فلو كانت تلك القلة من عجز، كان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بمسألة إطلاق تلك العقدة من موسى؛ لأن العرب أشد فخرًا ببيانها وطول ألسنتها وتصريف كلامها وشدة اقتدارها، وعلى حسب ذلك كانت ذرابتها على كل من قصر عن ذلك التمام، ونقص من ذلك الكمال. وقد شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وخطبه الطوال في المواسم الكبار، ولم يطل التماسًا للطول، ولا رغبة في القدرة على الكثير، ولكن المعاني إذا كثرت، والوجوه إذا افتنت كثر عدد اللفظ وإن حذفت فصوله بغاية الحذف. ولم يكن الله ليعطي موسى لتمام إبلاغه شيئًا لا يعطيه محمدًا، والذين بعث فيهم أكثر ما يعتمدون عليه البيان واللسن.

"وإنما قلنا هذا لنحسم وجوه الشغب، أن أحدًا من أعدائه شاهد هناك طرفًا من العجز، ولو كان ذلك مرئيا ومسموعًا لاحتجوا على الملا ولتناجوا به في الخلا، ولتكلم به خطيبهم، ولقال فيه شاعرهم، فقد عرف الناس كثرة خطبائهم، وتسرع شعرائهم، هذا على أننا لا ندري أقال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لم يقله،؛ لأن مثل هذا الأخبار يحتاج فيها إلى الخبر المكشوف، والحديث المعروف، ولكنا بفضل الثقة وظهور الحجة، نجيب بمثل هذا وشبهه.

وقد علمنا أن من يقرض الشعر ويكلف الأسجاع، ويؤلف المزدوج ويتقدم في تحبير المنثور "لا يكون كذلك إلا" وقد تعمق في المعاني وتكلف إقامة الوزن، والذي تجود به الطبيعة وتعطيه النفس سهوًا راهوًا مع قلة لفظه وعدد هجائه، أحمد أمرًا، وأحسن موقعًا من القلوب، وأنفع للمستعين، من كثير خرج بالكد والعلاج؛ ولأن التقدم فيه، وجمع النفس له، وحصر الفكر عليه، لا يكون إلا ممن يحب السمعة، ويهوى النفج١ والاستطالة؛ وليس بين حال المتنافسين وبين حال المتحاسدين إلا حجاب رقيق وحجاز ضعيف، والأنبياء بمندوحة من هذه الصفة، وفي ضد هذه الشيمة.

وقال الله تعالى وقوله الحق: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ثم قال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ثم قال -أي: في


١ السمعة: الصيت. النفج: الافتخار.

<<  <  ج: ص:  >  >>