للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والاتساع وإلى أن يكون شاعرًا، ولو كان شاعرًا لذهب مذاهب العرب التي تبعث عليها طبيعة أرضهم -كما بسطناه في موضعه١- ولتكلف لها، ونافس فيها، ثم لجاراهم في ذلك إلى غايته، حتى لا يكون دونهم فيما تستوقد له الحمية، وما هو من طبع المنافسة والمغالبة، وهذا أمر، كما ترى، يدفع بعضه إلى بعض، ثم لا يكون من جملته إلا أن ينصرف عن الدعوة، وعما هو أزكى بالنبوة وأشبه بفضائل القرآن، ولا من أن يتسع للعرب يومئذ بد، فيقرهم على شيء، ويجاريهم على شيء، وينقض شعره أمر القرآن عروة عروة، ولذا قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} ٢.

ثم يأتي بعد ذلك جلة أصحابه وخلفائه، يأخذون فيما أخذ فيه، فيمضون على ما كان من أمرهم في الجاهلية، ويثبتون على أخلاقهم وعلى أصول طباعهم ويستطير ذلك في الناس، وهو أمر متى تهيأ نما فيهم، ومتى نما غلب عليهم، ومتى غلب استبد بهم، ومتى استبد لم تقم معه للإسلام قائمة {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .

فانظر، هل ترى شيئًا غير إلهي هذا التدبير المحكم والصنع العجيب؟ وهل ترى ذلك أعجب من أن الله تعالى منع نبيه تصحيح وزن الشعر، وجعل لسانه لا ينطلق به إذ وضعه موضع البلاغة من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه؛ لأنه تعالى من غيب المصلحة لعباده، أنه صلى الله عليه وسلم لو أقام وزن بيت مال به عمود الدين، ثم لتصدع له الأساس الاجتماعي العظيم الذي جاء به القرآن، إذ يكون قد بنى على


١ صفحة ١٠٥ من هذا الكتاب فما بعدها.
٢ بينا في صفحة ١٠٦ وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأتي إلى العرب بالتمويه، ولا يتألفهم على باطلهم، ولا يرفق بهم فيما يتخيلون.... إلخ، وأمسكنا هناك عن مثل نضربه؛ لأن له هنا موضعًا، وذلك أن ثقيفًا، وهم من أشد العرب، كانوا يأبون أن يدينوا للإسلام، حتى أسلم أكثر العرب، فائتمروا بينهم وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدًا في السنة التاسعة للهجرة، فلما دنوا من المدينة، لقوا المغيرة بن شعبة يرعى في نوبته ركاب الصحابة، فلما رآهم ترك الركاب وخرج يشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم. فلقيه أبو بكر، فلما علم الخبر قال له: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا الذي أحدثه! ففعل المغيرة، ودخل أبو بكر بهذه البشرى.
ثم خرج المغيرة إلى أصحابه، فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا، إلا بتحية الجاهلية، ثم كان فيما سألوه عليه الصلاة والسلام واشترطوه لبيعتهم وإسلامهم، أن يدع لهم الطاغية، وهي "اللات" لا يهدمها، ثلاث سنين، فأبى ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة. فأبى عليهم حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد مقدمهم، فأبى أن يدعها شيئًا يسمى وإنما كانوا يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم. ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها.
وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن يكسروا أوثانهم بأيديهم.
فقال عليه الصلاة والسلام: "أما كسر أوثانكم فسنعفيكم منه وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه"! فقالوا: يا محمد، أما هذه فسنؤتيكها وإن كانت دناءة! ثم أسلموا. وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنا. ولكنه أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
وهذا خبر مكشوف ليس منه موضع إلا هو يعطيك معنى من الفرق بين الأمر الإنساني والأمر الإلهي. فليست تبلغ العبارة في معناه ما تبلغ عبارته بمعناه.

<<  <  ج: ص:  >  >>