على أن منع الشعر إنما أخذ به صلى الله عليه وسلم منذ نشأته، ولولا ذلك ما استقام له وجه طبيعي ليس فيه ندرة تعد؛ فقد نشأ منه نشأته على بغضه؛ والانصراف عما يزين الشيطان منه، والنفرة من تعاطيه، وعلى أن يتوهم شيئًا من أوزانه وأعاريضه حتى يميت الدواعي إليه من نفسه، فلا تنزع به الفطرة، لا تستدرجه العادة، وعظم ذلك عنده وبلغ، لا يعرف أحد من العرب كره قول الشعر كرهه، ولا أبغضه بغضه، مع تأصله في فطرتهم، ونزوعهم إليه بالعِرْق، ونشأة الناشئ منهم على أسبابه من طبيعة الأرض وطبائع أهلها، وعلى أنه لا يفتأ يدور في مسمعه، ويختم في قلبه، ولا يبرح منه راويًا أو حاكيًا، فقد كان حكمة القوم وسياستهم ومعدن آدابهم وديوان أخبارهم، بل كان عبادة أرواحهم لطبيعة أرضهم، والصلة المحفوظة بينهم وبين ماضيهم، كما سلفت الإشارة إليه في موضعه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر ١. ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، فعصمني الله منهما، ثم لم أعد".
لا جرم أن ذلك تأديب من الله أراد به تحويل فطرته صلى الله عليه وسلم عن الشعر وقوله، حتى لا تنزع به العادة منزعًا، ولا تذهب في أسبابه مذهبا وحتى تستوي في ذلك ظاهرًا ودخلة، فلا يستطرق لها الوهم من باب ولا يجد إليها مهوى يبلغه، ومتى كان بغض الشعر في نفسه كبغض الأوثان وأن العمل في ذلك بالنسبة إليه كالعمل لهذه، فكيف يمكن أن يبقى له مع هذا كله طبع فيه أو وجه إليه. وكيف يتأتى أن يكون مثل هذا أدبًا أخذ به نفسه وراضها عليه، دون أن يكون تأديبًا من الله وتصرفًا منه، في تكوين نفسه وتهذيب فطرته، وتحويل طبعه، وأن يكون قد منعه في هذا الباب ما لم يمنعه أحدًا من قومه، كما أعطاه في أبواب كثيرة ما لم يعطه أحدًا منهم، وخاصة إذا عرفت أن الشعر قد كان سجية في أهله، وأنه ليس من بني عبد المطلب رجالًا ونساء من لم يقل الشعر غيره صلى الله عليه وسلم وإنما كل ذلك تفسير طبيعي لقوله عليه الصلاة والسلام:"أدبني ربي فأحسن تأديبي".
على أنه فيما كان وراء عمل الشعر وتعاطيه وإقامة وزنه، يحب هذا الشعر ويستنشده، ويثيب عليه، ويمدحه متى كان في حقه ولم يعدل به إلى ضلالة أو معصية، والآثار في هذا المعنى كثيرة لا نطيل باستقصائها، ولولا أن ذلك قد كان منه صلى الله عليه وسلم لماتت الرواية بعد الإسلام، ولما وجد في الرواية من يجل وكده حمل الشعر وروايته وتفسيره واستخراج الشاهد والمثل منه، وكأنه عليه الصلاة والسلام حين سمع الشعر وأثاب عليه ورخص فيه لم يرد إلا هذا المعنى، والشاهد القاطع قوله في أمر الجاهلية:"إن الله قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته" وبمثل هذا القول استأنس العلماء وتجردوا للرواية وتملئوا منها. رحمهم الله وأثابهم بما صنعوا!
وقد كان له صلى الله عليه وسلم شعراء ينافحون عنه، ويتجارون مع شعراء القبائل الأحاديث والأفانين، ولم
١ أي: قوله وعمله. كما فسروه وكما هو ظاهر، وعطف الشعراء على الأوثان هذا. الحديث عجيب، فما من شاعر إلا له كالوثن، من امرأة، أو رذيلة، أو نحوها.