للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبقي معنى رائع في لفظة "النفس"؛ وذلك أن يقال على المجاز: فلان في نفس من ضيقه، إذا كان في سعة ومندوحة وقد عرف الضيق ما هو بعد أن شد عليه وكتم أنفاسه! فيكون التأويل على ذلك، أن الساعة آتية وأنها قريبة. وأنها تكاد تكون ولكن البعثة في نفس منها، فليعمل الناس لآخرتهم فإنه يوشك أن لا يعملوا؛ ثم ليعمروا أنفسهم قبل أن يعمروا أرضهم فإن الساعة تطوي هذه وتنشر تلك.

ومن تلك الأوضاع قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أرض بسماتها"، وقوله: "يا خيل الله اركبي" "ولا تنطح فيها عنزان" ١.

وقوله لأنجشة، وكان يسير بالنساء في هوادجهن، وهو يحدو بالإبل وينشد القريض والزجر، فتنشط وتجد وتنبعث في سيرها فتهتز الهوادج وتضطرب النساء فيها اضطرابًا شديدًا فقال عليه الصلاة والسلام: "رويدك رفقًا بالقوارير" ٢.

وقوله في يوم بدر: "هذا يوم له ما بعده" ٣، إلى أمثال لذلك كثيرة؛ ولو أردنا أن نستقصي في جمعها وفي شرحها واستنباط وجوه البيان منها، لطال بنا القول جدا ورجع أمر هذا الفصل أن يكون في معنى التأليف كتابًا برأسه إن كنا لا نلتزم إلا جهة البيان وحدها.

وكل ذلك من الأوضاع التي ابتدعها أفصح العرب صلى الله عليه وسلم في هذه اللغة ابتداء ولم تسمع من أحد قبله، ولا شاركه في مثلها أحد بعد، وكل كلمة منها كما رأيت لا يعدلها شيء في معناها، ولا يفي بها كلام في تصوير أجزاء هذا المعنى وانتظام هذه الأجزاء ونفض أصباغها عليها، وهذا الضرب من الكلام الجامع هو الذي يمتاز البليغ في كل أمة بالكلمة الواحدة من مثله، أو الكلمتين، أو الكلمات القليلة القليلة. ولو ذهبت تحصيه في العربية ما رأيته إلا معدودًا، على حين أن خطباءها وشعراءها وكتابها وأدباءها لا يأخذهم العد وقد انفردت بكثرتهم هذه اللغة الخاصة، حتى لا تساويها في ذلك لغة أمة من الأمم فإن كان لأضخم هذه الأمم بعض شعراء فلنا بعض وكل، وإن عدوا لنا واحدًا "صفرناه" ولا فخر٤.


١ أي: لا امتراء فيها، وأكثر ما يكون انتطاح المعزى إذا أخصبت الأرض فشبعت، فإنها تتظالم من الأشر، فتنفش العنز شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها، وما بها نطاح، ولكنه مراء وأشر ومكابرة، وتلك طبيعة في المعزى بخاصتها.
٢ هي الزجاجات، ووجه المعنى ظاهر، وكأنهن نور وصفاء ورقة ثم سلامة قلما تسلم إلا بشدة الصيانة والحفظ والمراعاة.
٣ يريد أنه أساس تاريخي لما سيبنى عليه، فليضعوا كل همهم فيه، أو هو يملك الأيام الآتية، فإذا أحرزوه أحرزوها معه، وإن خسروه ذهبت بذهابه.
٤ أي: زدناه صفرًا فعددنا عشرة، وأخرجناه كذلك صفرًا ولا فخرًا، وهذه الكثرة كثرة لغوية، كما بيناه في الجزء الأول من التاريخ. فهذه اللغة العربية خاصة تقبل من الإعجاز البياني وضروبه ما لا يحمله شيء من لغات الأرض؛ لأن ذلك طبيعي فيها كما عرفت.

<<  <  ج: ص:  >  >>