للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقلما يتفق ذلك الضرب من الكلام في العربية على مثل ما رأيت من الغرابة البيانية، إلا في القرآن الكريم والبلاغة النبوية، وهذه كتب الأدب ودواوين الشعر والرسائل بين أيدينا؛ فخذ فيها حيث شئت فإنه كلأ حابس فيه كمرسل١.

على أن أعجب شيء أنك إذا قرنت كلمة من تلك البلاغة إلى مثلها مما في القرآن، رأيت الفرق بينهما في ظاهره كالفرق بين المعجز وغير المعجز سواء ورأيت كلامه صلى الله عليه وسلم في تلك الحال خاصة مما يطمع في مثله، وأحسست أن بين نفسك وبينه صلة تطوع لك القدرة عليه وتمد لك أسباب المطمعة فيه، بخلاف القرآن، فإنك تستيئس من جملته، ولا ترى لنفسك إليه طريقًا ألبتة، إذ لا تحس منه نفسًا إنسانية، ولا أثرًا من آثار هذه النفس، ولا حالة من حالاتها حتى تأنس إلى ذلك على التوهم، ثم تتوهم الطبع والمعارضة من هذه الأنسة، فتمضي عزمك وتقطع برأيك، وتبت القول فيه كما يكون لك قراءة الكلام الإنساني، فإن جميع هذا الكلام الآدمي منهاج، ولجملته طريق؛ وحدود البلاغة التي تفصل بعضه عن بعض كلها مما يوقف عليه بالحس والعيان، ويقدر فرق ما بين بعضها إلى بعض مهما بلغ من تفاوتها واختلافها في السبك والصنعة والغرابة.

بيد أن ذلك مما لا يستطاع في القرآن ولا وجه إليه بحال من الأحوال فما هو إلا أن تقرأ الآية منه حتى تراها قد خرجت من حد المألوف، وانسلت منه وفاتت سمت ما قدرت لها من مطلع ومقطع، فمهما وجدت لا تجد سبيلًا إلى حدها، ومهما استطعت لا تستطيع أن تقرن بها كلامًا تعرف حده في البلاغة، إن لم يكن بالصنعة فبالحسن.

وهذا وجه من أبين وجوه الإعجاز في القرآن، وقد جاء من طبيعة تركيبه وأن لا أثر فيه من آثار النفس الإنسانية، وعليه قول الجاحظ في "كتاب النبوة" وإن كان لم يهتد إلى تعليله: "لو أن رجلًا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم -أي: العرب- سورة قصيرة أو طويلة، لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها".

ولا يقذفن في روعك أنه صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب، لو قد تصنع في شيء من كلامه؛ وتكلف له، وتأتى لوجوه البلاغة المعجزة فيه، من التركيب البياني، والاختراع اللغوي وما إليهما لجاء منه ما عسى أن يطابق القرآن في نظمه وإحكامه، وفي كل ما به صار القرآن معجزًا, تتوهم ذلك الذي يكون من جمع النفس القوية، وكد الذهن الصحيح، والتوفر بأسباب الفطرة والصنعة على عمل هذا أمره وشأنه؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لو اتفق له كذلك -على فرض أن يتفق- لخرج مخرج غيره من فصحاء العرب، قولًا واحدًا٢؛ لأن ما كان على حكم الغريزة لا ينزل على حكم الصنعة، وإنما نوادر


١ هذه العبارة مثل يقال في المرعى الكثير الذي يكون من الخصب في حالة مستوية، فيخرج العشب بعضه كبعضه، فمن حبس إبله في موضع منه كمن أرسله؛ لأنه لا ميزة لموضع على موضع في معنى الكثرة من النوع.
٢ يؤكد لك ذلك، وأنه أمر لا خلاف فيه عند أهله: ما أسلفنا بيانه في صدر هذا الفصل؛ من أن الصحابة كانوا يروون الحديث بالمعنى؛ فهم لا يرونه بحس الفطرة إلا كلامًا إنسانيًا: ولو أحسنوا مثل ذلك في القرآن لاقتحموا عليه أو فعل ذلك غيرهم ممن لم يؤمنوا به. بل لكان واجبًا أن يفعلوا.

<<  <  ج: ص:  >  >>