للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصاحة والبيان من هذه التراكيب الغريبة عمل لا تبلغ فيه الحيلة، ولا يؤتيه البحث والنظر وتعاطي هذه الصناعة الفلسفية التي تنفذ شيئًا من شيء وتهيئ مادة من مادة، بل كان ذلك في حكماء البلاغة إنما هو شعر القريحة البيانية، وهو ضرب من الإلهام، يقوى بقوة الاستعداد له ويكثر بكثرة أسبابه في النفس فلا يتعاطاه أهله بالصنعة الكلامية ولو وقعوا في ملء رءوسهم منها١، ولا يمكن أن تنفذ فيه قواعد التأليف البياني التي تصف البلاغة وضروبها وأسرارها؛ بل هو يتفق لهم اتفاقًا على غير طريقة معروفة ولا وجه يسلكونه إليه وقد يعسر على أبلغ الناس في حين قد تيسر له بأسبابه، واتجه إليه بالرغبة، وجمع عليه النفس الحريصة، وحسبه منقادًا فإذا هو عنان لا يملك٢.

ولو أن هذا الضرب كان مما يجدي فيه الاحتفال، وتبلغ منه الروية ويحتال عليه بالنظر والتثبت، كسائر ضروب الكلام, لقد كان البلغاء ابتذلوه ونالوا منه وصاروا فيه إلى الغاية، مع أنه غصة الريق التي لا يعتصر منها٣، وإنما يبعثها قدر، ويسيغها قدر، ومع أن الحرف الواحد منه في باب الاستعارة أو المجاز أو الكناية أو نحوها إذا اتفق لأحدهم كان أمير كلامه، والواسطة في نظامه، والدليل على إلهامه.

فهذه واحدة، والثانية أنه صلى الله عليه وسلم لو اتفق له كذلك -على فرض أن يتفق- لما استطاع أن يتجرد من نفسه الكلامية، التي من شأنها أن تطمع غيره في كلامه، وتجعله أبعد الأشياء عن مظنة الإعجاز بجانب الكلام ورأى ألفاظه تتنفس تنفسًا آدميا، بجانب تلك الألفاظ التي تهب هبوبًا كأن لها جوا فوق كون من اللغة.

وليس الأمر في هذه المعارضة -كما علمت- إلى مقدار الهمة في بعدها وقصرها، ولا مبلغ الفطرة في شدتها واضطرابها، ولا حالة البليغ في احتفاله ومهاونته، بل هو أمر فوق ذلك أجمع، وليست هذه الهمة وهذه الفطرة وهذه الحالة مما توجد في نفس الإنسان غير صفاتها الإنسانية بالغة ما بلغت ونازلة حيث تنزل، فإن كل أمر لا يوطأ له بأسبابه لا تحدثه غير أسبابه، وما عرف الناس يومًا من الدهر أن قوة الخلق ظهرت في مخلوق، ولا أن إنسانًا أخرج من نفسه غير ما في نفسه.

ومن خواص القرآن العجيبة، أن كل فصيح يحتفل في معارضته لا يزيده الاحتفال إلا نقصًا من طبيعته، وذهابًا عن قصده وسنته، فكلما اندفع إلى ذلك ارتد بمقدار ما يندفع، وكلما كد طبعه رأى من تبلده على حساب ما يكده فإذا ترك ذلك حينًا فعفا من تعبه٤ وتراجع إليه الطبع ثم عاد، كانت الثانية أشد عليه من الأولى؛ لأنه كلما طمع أسرع به ذلك أن يتحقق اليأس وهكذا حتى يكون هو أول من يتهم نفسه بالعجز، ويرمي طبعه بالاختيال، ويصف كلامه بالنقص، فإنه إنما يطمح في تلك


١ يقال وقع في ملء رأسه. أي: فيما يشغله ولا يترك له فكرًا في غيره.
٢ استوفينا شيئًا من هذا المعنى في صفحة ١٧٦ من هذا الكتاب فارجع إليه.
٣ الاعتصار: أن يغض إنسان بالطعام، فيشرب الماء قليلًا قليلًا ليسيغه وقد اعتصر بالماء: إذا فعل ذلك.
٤ أي: استراح وثابت إليه القوة.

<<  <  ج: ص:  >  >>