للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المعارضة إلى شيء من غير طبعه، فلا يرضى لها بشيء من طبعه ومتى كان ذلك منه، لم يترك نفسه وشأنها، بل يمنعها مما تنازع العمل عليه، ويردها عن وجهها ويشق عليها في النزوع، ويكدر بها تكديرًا يفسد عليها كل ما هي فيه من ذلك العمل، فليست تجد منه أبدًا إلا طريقة معروفة وقوة محدودة وإلا ما صنعت عليه ونشأت فيه.

فإذا طال ذلك به وبها، أمات حركتها ونشاطها، وترامى بها إلى العجز وضربها باليأس والقنوط، فذهب منه ما كان في طوقه وقوته من البلاغة في سبيل ما ليس في طوقه وقوته، وأكدى طبعه فيما كان ينجح فيه، وتبدل من شأنه الأل شأنًا ثانيًا كيفما أداره رآه سواء غير مختلف. وذلك كله من غير أن يكون هناك إلا قوة القرآن المعجزة، وقوة نفسه العاجزة، وهذا معنى قد وقع تفصيله في موضعه ومر في بابه، فلا حاجة بنا إلى الزيادة منه بأكثر مما سلف.

وضرب آخر من الأوضاع التركيبية في بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم غير ما مرت مثله من ذلك النحو الذي يكون مجتمعًا بنفسه منفردًا في الكلم القليلة، وهذا الضرب يتفق في بعض الكلام المبسوط، فتقوم اللمحة منه في دلالتها بأوسع ما تأتي به الإطالة، وتكفي من مرادفة المعاني وتوكيدها ومقابلتها بعضها ببعض، فيكون السكوت عليها كلامًا طويلًا، والوقوف عندها شأوًا بعيدًا وهو القليل في كلام البلغاء إلى حد الندرة التي لا يبنى عليها حكم، ولكنه كثير رائع في البلاغة النبوية، لما عرفت من أسباب قلة كلامه صلى الله عليه وسلم، فإن هذه القلة إن لم تنطو على مثل هذا الضرب الغريب، لا تفي بالكثرة من غيره، ولا تعد في باب التمكين والاستطاعة، ولا يكون فضلها في الكلام فضلًا، ولا يعرف أمرها في البلاغة أمرًا.

فمن ذلك حديث الحديبية١، حين جاءه بديل بن ورقاء يتهدده ويحذره فقال له: إني تركت كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي، معهم العوذ المطافيل٢ وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قريشًا قد نهكتهم الحرب ٣ فإن شاءوا ماددناهم مدة ويَدَعوا ما بيني وبين الناس فإن أظهر عليهم وأحبوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس. وإلا كانوا قد جموا، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمرئ هذا حتى تنفرد سالفتي هذه٤، ولينفذن الله أمره".

فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: "حتى تنفرد سالفتي هذه" وكيف تصور معنى الانفراد الذي لا يستوحش منه؛ لأن الثقة فيه بالله، والقلة التي لا يخاف منها؛ لأن الكثرة فيها من الله، والاستماتة التي لا تردد معها؛ لأن الأمر فيها إلى الله، وانظر كيف يصف العزيمة الحذاء، وكيف تقرع بالوعيد والتهديد،


١ هي بئر قرب مكة أو قيل لها ذلك لشجرة حدباء كانت هناك.
٢ يريد النساء والصبيان، والعوذ في الأصل. جمع عائذ، وهي الناقة إذا وضعت وبعدما تضع أيامًا حتى يقوى ولدها، أو هي كل أنثى حديثة النتاج والمطافيل: جمع مطفل وهي ذات الطفل. وغرضه: أنهم جاءوا بحميتهم وما يقاتلون عليه فلا ينهزمون عنه!.
٣ أي: جهدتهم وهزلتهم وبالغت فيهم.
٤ المراد بالسالفة: العنق: وهي في الأصل ناحية مقدمها.

<<  <  ج: ص:  >  >>