للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعرف قراء العربية أن كل كتب المراجع في لغتنا ليس لها فهارس تعين الباحث على التماس ما يريده منها في أقصر وقت، إلا بضع كتب من المطبوعات الحديثة، فالأغاني، والعقد الفريد، والكامل، والعمدة، والخزانة، والحيوان، والبيان والتبيين، وكتب الطبقات، وحتى كتب الفهارس والتراجم، ليس لها فهارس يمكن الاعتماد عليها عند البحث؛ فمن أصاب منها غرضًا فعن طريق المصادفة والاتفاق، أو بعد المطاولة وضياع الزمن؛ وحسبي أن أذكر أنني ذات مرة أنفقت ليلة كاملة في البحث عن كلمة في البيان والتبيين ثم لم أعثر بها فطويته على سأم وملالة؛ فلما كنت بعد أيام وفات علي الغرض الذي كنت أقصد فتحت الكتاب عرضًا، فإذا الكلمة التي كنت أريدها أمامي.

هذه الحقيقة يعرفها كل من عانى مشقة البحث في هذه الكتب، فهي كتب للقراءة المجردة لا للبحث العلمي، عرف الرافعي ذلك فاتخذ له طريقًا.

فكان أول ما يصنع أن ينتخب كل الكتب التي يعنيه أمرها فيما يمهد له من البحث فيقرأها كلها قراءة درس؛ أعني ينفضها نفضًا بحيث لا يفوته منها معنى يتصل بموضوعه، ثم يشرع بعد ذلك في العمل، فيكتب لكل كتاب مما قرأ ملخصًا يضم المجلدات الكثيرة في كراسة أو كراسات يرجو أن تغنيه عن أصولها المطولة. ثم يعود إلى هذه الملخصات فيرتب أجزاءها ترتيبًا يضم القريب إلى القريب بحيث يجد طلبته عند النظرة الأولى من غير أن يتعب في تقليب الأوراق. ثم تكون الخطوة الرابعة، فيزاوج بين ملخصات الكتب المختلفة بضم الأشباه منها إلى الأشباه. ثم يكتب.

ثم يعود إلى ذلك المكتوب فيقرؤه قراءة الباحث: يزاوج بين رأي ورأي ليخرج منهما إلى رأي ثالث. وتجتمع له من ذلك المقدمات التي تبلغ به النتيجة.

ثم تأتي المرحلة الأخيرة، وهي التهذيب والصقل الفني، من صناعة البيان وتحكيك الألفاظ وتجميل المعاني وتزيين الأسلوب.

سبع مراحل بين البدء والنهاية. ثم يخرج الكتاب لقارئه ليسائل نفسه في عجب: أين ومتى اجتمع لمؤلفه ذلك القدر من المعارف في شئون العرب والعربية فألف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟

سؤال كنت أسأله نفسي قبل أن أرى وأعرف وأضع يدي على تلك الأوراق التي خلفها في درج مكتبه لأؤلف من أشتاتها هذا الكتاب.

قلت: كانت المرحلة الأولى في مؤلفات الرافعي العلمية أن يختار طائفة من الكتب يرجو أن تعينه على البحث. وأقول إن أول ما كان يختار من ذلك، كتب التراجم. وطريقته في التحصيل من هذه الكتب، أن يقرأ الكتاب ما بين دفتيه، ثم يكتب له ملخصا يشمل أسماء أهل الفنون الأدبية وامتياز كل منهم، مثل الشعراء، والخطباء، والكتاب، والرواة؛ ثم أسماء الكتب، وموضوعها، وفنون العلم، ومعارضات العلماء بعضهم لبعض؛ ثم الطرائف الأدبية التي تشير إلى معنى يتصل بشيء من موضوعه. وفي كتب التراجم من هذه الطرائف ما ليس في كتاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>