وهذا الأخير كان ضنينًا بالمعاني حريصا عليها: يأخذ المعنى الواحد ويولده فلا يزال يقلبه ظهرًا لبطن، ويصرفه في كل وجه وفي كل ناحية، حتى يميته ويعلم أنه لا مطمع فيه لأحد يتخصص به ويزيد بذلك مادة النبوغ العبقري في شعره؛ وقد تجد من يجيء بعده ممن لا يعد في طبقته قد أخذ هذا المعنى بعينه فولد فيه زيادة ووجهه جهة حسنة تدل البصير بالصناعة على أن ابن الرومي مع شرهه لم يتركها عن قدرة. وذكر ابن رشيق في موضع من كتابه "العمدة" عزمه على تأليف كتاب يحصي فيه معاني الجاهلية ويذكر ما انفرد به المحدثون وما شركهم فيه المتقدمون، كصفات النجوم ومواقعها، والسحب وما فيها من البروق والرعود، والغيث وما ينبت عنه، وبكاء الحمام، وكثير مما لم يتسع له كتاب العمدة، وشرط [على نفسه] في ذلك إحصاء المخترعات للمحدثين وإقامة البرهان منها على أن ابن الرومي أكثر الشعراء اختراعًا. وابن رشيق [أهل لهذا] التأليف، ولكنا لم نعرف عنه خبرًا غير ما ذكره هو.
والمعاني بما فيها من صفة الحياة وفسحة الروح خاضعة كالأحياء لناموس الانتخاب الطبيعي الذي يقضي بتنازع البقاء، ولولا ذلك لأقفل باب الاختراع والتوليد؛ لأنه إذا اقتصر الناس على طبقة واحدة من الشعر ولم يكن في طباعهم ما يساعد معنى من الكلام على إماتة معنى آخر أو إسقاطه والحلول محله لم يبق من الكلام ما يتفتح للتوليد، ولم يبق من القرائح ما يتمخض للولادة؛ ولو تتبعت معاني الشعر السائرة ورتبتها ترتيبًا تاريخيا على العصور التي قيلت فيها، لأمكنك أن تضع من ذلك تاريخًا لهذه الوفيات المعنوية، ومن أمثلة ذلك ما قاله الجاحظ أن الناس كانوا يستحسنون قول الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
فلما قال الحطيئة:
متى تأته تعشوا إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
سقط بيت الأعشى "ج١: البيان والتبيين" مع أن بيت الحطيئة مولد من قول الأعشى، والتوليد أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه أو يزيد فيه زيادة، وليس باختراع لما فيه من الاقتداء بغيره، ولا يقال له أيضًا سرقة إذا كان الشاعر ليس آخذًا على وجهه.
الاتباع وأنواعه:
فالتوليد اتباع، ولكن هذا الاتباع على نوعين: اتباع في طريق المعنى، واتباع للمعنى نفسه؛ والأول يكون إلمامًا وملاحظة واسترواحًا، والثاني لا يكون إلا غصبًا وسرقة واستكراهًا، وذلك دليل البلادة وسقوط الهمة وضعف القدرة والعجز؛ وقد ذكروا للاتباع في الشعر أنواعًا سموها بأسماء خاصة، وهي ألقاب محدثة وضعوا أكثرها في القرن الرابع, وذكرها الحاتمي في حلية المحاضرة، وتبسط فيها ابن رشيق "ص١٦ ج٢: العمدة" وأورد مثالًا لكل من هذه الألقاب فارجع إليها إن شئت.