للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلا عرضًا يحمي بالسيف أو عرضًا يسلب بالسيف، وجعلها ذلك منهم بمنزلة الذاكرة من وقائع التاريخ، فهي التي تذكرهم الثأر وأيام الدم، وهي التي لا تنسى شيئًا مما هيأتها له الطبيعة الاجتماعية في أرضها وقومها، فإن كانت لم تعش إلا في ظلال السيوف، وإن كانت أما لم تلد إلا قاتلًا أو مقتلولا، فهي في الأولى يتصل بها تاريخ القتلى من أهلها، وفي الثانية تتصل هي بتاريخ القتلى من ذويها؛ فمن ثم انصرفت عن الشعر إلا في أخص شئونها، وشغلت من الخيال بإحساسها الذي لا هم لها إلا أن تستمده من الحادثات لتوقع منه حادثات مثلها، سيئة بسيئة، فهي بعيدة عن القول بمقدار قربها من العمل.

ولذلك بنيت المرأة العربية على أخلاق شديدة، لمكان الطباع والعادات والحوادث التي أنشأتها [وانحدرت] فيها وجرت عليها، فجاءت في مثل تركيب الصحراء إن يكن فيها ساعات ندية من الليل وضوئه ونسجه وأحلامه، ففيها نهار يصب النار على [الأحياء] ملء أقطار السموات، كأنه لم يقسم لها إلا شدة الحب وشدة البغض، تجري فيهما على أسباب وعلل مذ صارت جزءًا من طبيعتها الثانية فتستفرغ فيهما كل وسائلها وتبلغ بهما ما بلغت قواها، فتنتهي إلى خلقين ثابتين: شدة الجزع، وشدة الصبر؛ وكل ذلك مما لا يترك للشعر في طبعها إلا مكانًا محدودًا في معان محدودة.

وسبب رابع في قلة الشاعرات عند العرب، وهو أن كل قبيلة إنما تعتد الشاعر لسانها السياسي، وتعده للخصومة في تاريخها والنضح عن أحسابها، وتنال به ما ينال الأسد من أنيابه، فهو منهم إن أرادوه كان المعنى المتوحش في المعنى الإنساني، وإن أرادوه [لأفئدتهم] كان المعنى الإنساني في المعاني الوحشية ولذلك يسمون الشعراء "أظفار العشيرة" والمرأة لا تصلح ظفرًا ولا نابًا، ولا تحسن أن تمضغ لحوم الأعداء في هجائها، ولا أن تأتي بالكلام الذي تترقرق فيه دماؤهم، ثم هي نفسها [جزء] تقع عليه الخصومة بينهم، وفيها أكثر المعاني التي يستبون بها، بل هي أم هذه المعاني.... ثم كانت [طبيعة جنسهم] أن ينشئوها في الحلية لا في الخصام، وأن يجعلوها فاكهة العيش لا ثمره المر، وكل هذه حدود تتراجع فيها حدا وراء حد، والشعراء منطلقون من جميعها*.

والعرب لا يرون كل من تقول الشعر شاعرة؛ إذ كان ذلك طبيعيا فيهم وإنما الشأن فيمن تتخطى حدود الحجاب الطبيعي وتكثر من القول وتتصرف في فنونه ومعانيه بما يتعدد من حوادثها ومصائبها؛ فتلك هي الشاعرة عندهم لا غيرها، وبذلك جرت لهم العادة في السماع والرواية، إذ المصائب تجعل المرأة في [جو] الرجل أو قريبة منه، بما تضيف إليها من الشعور وبما تبعثها عليه من العمل، ثم هي في تلك الحال إنما تدون لهم بعض التاريخ وتزيدهم لسانًا في رواية المفاخر، ومن هذه الجهة تشبه الشعراء، فيتناشدون شعرها ويستمعون إليها، وتنبغ بالمصائب ثم تكون ندرتها فيهم نبوغًا آخر، وقلما


* قلت: بخط المؤلف في بعض الصفحات من الأصل قرأت العبارة التالية، فرأيت إثباتها هنا.
"..... ثم إن هذه اللغة في العربية فحولة في أكثر ألفاظها وأساليبها، لا تلائم أنوثة النساء، فهذا سبب آخر في اقتصارهن على الرقيق المأنوس مما يجري في المعاني الرقيقة ولا يصلح لغيرها كالرثاء والغزل ونحوهما ... ".

<<  <  ج: ص:  >  >>