تقدمت المرأة عندهم في باب من أبواب الكلام أو العمل إلا كانت غريبة نادرة، وهي سنة طبيعية في التاريخ انتفعت بها النساء الشاعرات إلى يومنا هذا؛ فإن الشيء الغريب لو لم تكن له قيمة لكفى بغرابته قيمة فيه.
وكان نساء العرب يقلن الشعر في معان متقاربة يرجع [أكثرها] إلى إحساس المرأة وحسن تصريفه بين عقلها ولسانها؛ ولم يكن لهن من معاني الشعر غير الرثاء وبعض الغزل، وشعر ترقيص الأطفال، وشعر التحضيض يثرن به نخوة الرجال ويحضضنهم على طلب الثأر والثبات والاستماتة في الحرب؛ وقد تجعل المرأة جسمها قصيدة مع شعرها في التحضيض، كالذي فعلته ابنتا الفند الزماني، فقد قالوا إنه لما اشتدت الوغى يوم التحالق وخاف بنو بكر من الفرار، عمدت إحداهما إلى أثوابها فألقتها عنها وأقبلت عارية مجردة وجعلت تحض الناس وترتجز, وفعلت أختها مثل ذلك، فتحمس القوم ووثبوا يقاتلون قتالًا منكرًا؛ فهذه مادة من شعر النساء لا يستطيعها أبلغ الشعراء من الرجال.
والرجز الذي ارتجزت به إحدى هاتين هو الرجز المشهور:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
وهذه الأبيات تروى أيضًا لهند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان، فقد كانت ترتجز بها في وقعة أحد وخلفها النساء يضربن بالدفوف، وهند هذه هي التي شقت بطن حمزة لما قتل، وقد كان أسدًا من أسود الله على قومها، فاستخرجت كبده فلاكتها في فمها فلم تطق إساغتها فلفظتها، وهذا من شر ما يعرف عن امرأة، وليس يشبهه إلا من فعلته ريحانة أخت عمرو بن معديكرب الفارس المشهور؛ وأم دريد بن الصمة فارس هوازن وسيد بني جشم، فإنه لما قتل ابنها عبد الله بن الصمة لم تزل تعير أخاه دريدًا وتحضه، حتى نفر في طلب الثأر من غطفان، فغزاهم وقتل منهم قومًا، ثم أسر قاتل أخيه وأتى به إلى [فناء] أمه فقتله تحت عينيها، فأحضرت السيف وجعلت تلحس الدم بلسانها إلى أن انقطع منه شيء وهي لا تشعر لغلبة الفرح عليها؛ ومع هذا الظمأ إلى الدم لا يروى لريحانة شعر في ابنها، ولا هي معدودة في الشواعر، وإنما رثته أختها كبشة بنت معديكرب، فأجزأت الخالة عن الأم؛ ومن أعجب ما يروى عن شاعرة، خبر عجوز تسمى خويلة، وكان يدخل عليها أربعون رجلًا كلهم لها محرم بنو إخوة وبنو أخوات، طرقتهم بنو واهن وبنو ناغب فقتلوا منهم ثلاثين، فوقفت خويلة على مصارعهم ثم عمدت إلى خناصرهم فقطعتها [ونظمت] منها قلادة وألقتها في عنقها وخرجت حتى لحقت بابن أختها تستنفره للثأر في شعر جاف [مقتضب] كخناصر قتلاها، رواه القالي في أماليه "ص١٢٧ ج١".
ومن أعجب شعر النساء القديم في الجاهلية الأبيات المشهورة المروية لليلى بنت لكيز الملقبة بالعفيفة، وهي التي تصف فيها ابتذال الأعداء لعفافها بهذا البيت النادر:
قيدوني غللوني ضربوا ... ملمس العفة مني بالعصا
وقولها "ملمس العفة" من الكلام الذي لا يفنى التعجب من بلاغته ومن حسن التعبير فيه؛ وكذلك أبيات جليلة أخت جساس، وكان أخوها قتل زوجها كليبًا بن ربيعة؛ فلما اجتمع النساء يندبنه