أخرجنها وحسبنها شامتة؛ لأنها أخت القاتل، فبلغ ذلك إليها فقالت أبياتًا من أعجب الشعر:
جلّ عندي فعل جساس، فوا ... حسرتا مما انجلى أو ينجلي!
فعل جساس على وجدي به ... قاطع طهري ومدن أجلي
لو بعين فقئت عين سوى ... أختها فانفقأت لم أحفل
يا قتيلًا قوض الدهر به ... سقف بيتي جميعًا من عل
هدم البيت الذي استحدثته ... وانثنى في هدم بيتي الأول
يشتفي المدرك بالثأر وفي ... دركي ثأري ثكل مثكلي
إنني قاتلة مقتولة ... ولعل الله أن يرتاح لي١
قال صاحب المثل السائر: وهذه الأبيات لو نطق بها الفحول المعدودون لاستعظمت، فكيف بها من امرأة!
ولا يهولنك كثرة أسماء النساء اللاتي قلن شعرًا، فعمود الشعر عندهن الرثاء، وليس لهن إلا المقاطيع والأبيات القليلة، ولم تبن منهن إلا الخنساء وليلى [الأخيلية] ؛ وما شعرت الخنساء حتى كثرت مصائبها؛ وكانت قبل ذلك كغيرها من النساء: تقول البيتين والثلاثة، حتى قتل أخوها صخر [....] به من كان مثله، فأجادت وأطالت؛ لأنها أصبحت مصروفة الهم إلى نوع من الحب في نوع من الشعر؛ وسمت همتها إلى أن صارت تعاظم العرب في مصيبتها بأبيها وأخويها صخر ومعاوية؛ فصارت تشهد المواسم وقد سومت هودجها براية وتقول: أنا أعظم العرب مصيبة! وتبكي أهلها وتنشد مراثيهم فدارت أشعارها على الألسنة؛ وقد قلدتها في هذا الصنيع هند بنت عتبة، فإنه لما قتل أبوها وعمها وأخوها، وبلغها ما تفعل الخنساء في الموسم وتسويمها هودجها ومعاظمتها العرب بمصيبتها، قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبة! وأمرت بهودجها فسوم براية، وشهدت الموسم بعكاظ، وجعلت تسأل عن الخنساء فدلت عليها، وجعلت كل منهما تعاظم الأخرى وتنشد مراثي أهلها. فلو كان يعرف عندهم أشعر من هاتين لسموهن.
وقد استفحلت الخنساء في رثاء أخيها صخر، وكان أخاها لأبيها ولكنه كان أحب إليها من معاوية وهو لأبيها وأمها.
غير أن المصائب لا تجعل غير الشاعرة شاعرة، ولا بد من تركيب ملائم في بعض الناس لتلقي مادة الشعر عن الروح والقلب والطبيعة، ولم يأت في شعر النساء [خاصة] أفحل ولا أجزل من شعر الخنساء، كأن فقد رجالها جعلها رجلًا.
وكثير من أشعار النساء يضعه الرواة ويهيئون له أخبارًا يجري فيها ذلك الشعر، ولكن ما تقوله المرأة في لوعتها لا يحسن الرجل أن يقول مثله مهما تكلف لذلك ولبسه على تصنع؛ وبهذا تستطيع