للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن تميز الصحيح والمنحول من شعر النساء.

وقد [يمسك] لسان امرأة في مصيبتها زمنًا إلى الحول إذا فجعت بحبيبها، فلا تقول شيئًا مع قدرتها على القول؛ لأنها لا تسلو ولا تفيق، ولا تريد أن تسلو ولا تفيق، كامرأة مالك بن عمرو الغساني، فلما زوجوها بعد زوجها الأول نطقت ترثيه ليلة عرسها؛ فكان شعرها طلاقها من بعلها الثاني!

ومن نادر الشعر في مراثي النساء أبيات تروى لامرأة من بني الحارث بن كعب كان لها طفلان من عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان عبيد الله هذا عاملًا لعلي بن أبي طالب على اليمن، فوجه معاوية إلى اليمن بسر بن أرطأة فأرشد على الطفلين، فوارتهما أمهما تحت ذيلها، فأخذهما وذبحهما تحت عينيها؛ فكانت تقول في رثائهما وندبهما أبياتًا، منها:

يا من أحس بنيي اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف

يا من أحس بنيي اللذين هما ... سمعي وطرفي فطرفي اليوم مختطف

يا من أحس بنيي اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف

ولا أبلغ في البلاغة ولا أحسن حكاية لصوت البكاء والندب من قولها "بنيي" فهاتان الياءان المشددتان تعصران الدموع عصرًا وتصوران غصص العبرات مترددة في حلق الباكية أبدع تصوير.

ولم يكن نساء العرب يقلن في الغزل ووصف الهوى إلا قليلًا، لمكان المرأة بينهم وشدة الغيرة فيهم، ثم لا يكون غزلهن إلا عفيفًا، كهذه الأبيات التي رواها ثعلب لامرأة من العرب* تقول فيها تصف خلوة مع حبيبها:

وبتنا خلاف الحي لا نحن منهم ... ولا نحن بالأعداء مختلطان

وبتنا يقينا ساقط الطل والندى ... من الليل بردًا يمنة عطران

نذود بذكر الله عنا من الصبي ... إذا كان قلبانا بنا يردان**

وهذا المصراع الأخير من أبدع الكنايات ومن أبلغ البلاغة العربية.

فلما تحضر العرب ونشأت طبقة الشعراء العشاق، وبدأ عصر القيان النادبات المغنيات -مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن في طبقتهن- فشا الغزل في شعر النساء، وكان يندر بعد ذلك أن تظهر الشاعرة المتفحلة التي تجري على سنة العربيات، كليلى بنت طريف الشاعرة [الفارسة] التي كانت في أواسط القرن الثاني للهجرة، وكانت تسلك في رثاء أخيها الوليد بن طريف الشيباني الخارجي مسلك الخنساء في رثاء صخر، ولها الأبيات الطائرة التي منها هذا البيت البليغ المشهور في كتب النحاة:


* قلت: هي أم ضيغم البلوية.
** قلت: الرواية المشهورة:
إذا كان قلبانا بنا يجفان.

<<  <  ج: ص:  >  >>