للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف

ولا غرابة في فروسية هذه الشاعرة وفصاحتها وجزالتها؛ فهي من نساء الخوارج، وهن في النساء الإسلاميات كالعضل في الجسم!

وللقيان النادبات تاثير بعيد في تاريخ الأدب؛ لأنهن يتهالكن رقة وظرفًا وحبا، وشعر الشاعرات منهن كخفقان القلوب، كله مقاطيع لا قصائد، وكان منهن من تجلي للشعراء تناقضهم وللأدباء تحاورهم، كخلوب جارية يحيى بن خالد البرمكي، وفضل الشاعرة جارية المتوكل، ولم تكن تشعر الواحدة منهن حتى يتصل [الهوى] بينها وبين شاعر أو شعراء وكاتب أو كتاب، تأخذ منهم وتدع، وتعرف منهم وتنكر، وليس بعد الخنساء وليلى الأخيلية أشهر من فضل الشاعرة جارية المتوكل؛ وروى صاحب الأغاني في أخبار سعيد بن حميد الشاعر الكاتب المترسل، وكانت تهواه فضل، عن إبراهيم بن المهدي، قال: كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطا وأفصحهم كلامًا وأبلغهم في مخاطبة وأثبتهم في محاورة؛ فقلت يومًا لسعيد بن حميد: أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتفيدها [وتخرجها] فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك، فقال لي وهو يضحك: ما أخبث ظنك! [والله] يا أخي لو أخذ [أوائل] الكتاب و [أماثلهم] عنها لما [استغنوا] عن ذلك.

ومن مضحكات فضل هذه أنها كانت تهاجي خنساء الشاعرة جارية هشام المكفوف، وذلك ما لم نعرف له نظيرًا في الأدب العربي، فقد عرفنا أن الهجاء قد يلج بين شاعرين، أو بين شاعر وشاعرة، ولكنا لم نعرفه بين شاعرة وأخرى مثلها، إلا ما قيل عن فضل وخنساء؛ وكان هجاؤهما نسائيا [حييا] وكانت كلتاهما تستعين في ذلك بالرجال؛ فكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلًا، وكان القصيري والحفصي يعينان خنساء، وبهذا رجع الهجاء إلى حقيقته فصار بين رجال بعضهم وبعض.

وكان عند المتوكل شاعرتان غير فضل، هما: بنان ومحبوبة، غير أن السبق لفضل؛ فهي شاعرة زمنها.

وعلى كثرة أسماء النساء الشاعرات في التاريخ الأدبي وروايتهم؛ عن أبي نواس أنه قال: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى، وقول أبي تمام: لم أنظم شعرًا حتى حفظت سبعة عشر ديوانًا للنساء خاصة, لم ينته إلينا ولا ديوان واحد إلا المقطعات التي جمعت للخنساء، وهي ليست ديوانها؛ ولعل السبب في ذلك أن الناس لم يكونوا يحفلون بشعر النساء، إذ كان شعر الرجال قد ملأ الدنيا وذهب المذاهب كلها في فنون الكلام وبلاغته، وإنما كان يجمع بعض الرواة والعلماء أشياء من ذلك، كالكتاب الذي جمعه أبو عبد الرحمن العتبي الشاعر البصري المتوفى سنة ٢٢٨هـ من أشعار النساء اللاتي أحببن ثم أبغضن، وكلهن من العرب، وأشعار النساء للمرزباني، وهذا الكتاب لا يزال موجودًا؛ ثم ما ألف في طبقاتهن، كالإماء الشواعر للأصبهاني المتوفى سنة ٣٥٠هـ، والنساء الشاعرات لعدة أدباء.

<<  <  ج: ص:  >  >>