للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأزمنة؛ لأنه لا يدور معها إلا قليلًا عندما يدفعه أهل القرائح المستقلة، ومدار الاستقلال في القريحة على نوع من الإبداع خاص بها هو الذي يقال فيه نفس فلان وروح فلان، فإذا اقتدت القرائح بعضها ببعض فقد استعبدت وذلت؛ لأنها تتبع آثارًا في طريق مصنوعة؛ ولكن طريق الإلهام لا أثر فيها إلا حسن الأرواح بعضها ببعض، وليس يمحق هذا الحس إلا خذلان من الله، فالقريحة المستقلة لا تتبع صفة قريحة أخرى؛ ولكنها تتبع الروح الملهم وتتبين آثاره في الصنعة وتبالغ في تمييزها حتى تتجه إلى مصدر الإلهام؛ وذلك سر النبوغ العبقري.

وقد يتفق للجاحظ أن يحوم بخاطره حول المعنى المقصود من الشعر ولكنه لا يسقط إلا على أطرافه وأعالي فروعه، وإنما يعمي عليه أن ينظر إلى أن الشعر عمل فردي مبدؤه الشخص وغايته الشخص؛ وكان ذلك صحيحًا في العرب؛ لأنه ينطبق على حالتهم الاجتماعية؛ إذ كانوا أفرادًا أو في حكم الأفراد؛ وكانت كل أعمالهم تجري هذا المجرى، فهم لا يغزون مثلًا مدافعة عن الحياة العامة للقبيلة؛ أي: من أجل باعث سياسي؛ ولكنهم يغزون للحياة الفردية؛ أي: مدافعة عن العيش أو التماسًا له أو مغالبة عليه؛ وكذلك هم في كل شأنهم ما دام قوام الاجتماع عندهم بالعصبية، وقد ظهر أثر ذلك في شعرهم فهو شخصي في معانيه، ممتاز بهذه الشخصية، حتى لا تجد فيه الحوادث المركبة التي يرمي بها إلى غرض عام، كتاريخ قبيلة من القبائل؛ وكالشعر التمثيلي الذي يتحيل فيه على تصريف المعاني وسياسة الحوادث؛ وكان ذلك سهلًا عليهم لو أنه في طبيعة معيشتهم ومن مقتضى نظامهم الاجتماعي، أما فيما عدا ذلك، أي: في المعاني الشخصية، فقد بلغوا في إجادتها مبلغًا يناسب إحكام اللغة وإتقانها؛ وهو الذي خدع به الرواة حتى ظنوه كمالًا إنسانيا كان مقسومًا للعرب فخصوا به وذهب في مآثر زمنهم؛ لأن على أسلوبهم وشي الغريزة، وفيه حوك الطبيعة، وذلك معدوم في طبع من بعدهم بالضرورة، ولما سئل أبو عمرو بن العاء عن المولدين قال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه وما كان من قبيح فمن عندهم، ليس النمط واحدًا، ترى قطعة ديباج وقطعة [نسيج] وقطعة نطع ...

قال الجاحظ: عامة العرب والأعراب والبدو والحضر من سائر العرب أشعر من عامة شعراء الأمصار والقرى من المولدة, وليس ذلك بواجب لهم في كل ما قالوه؛ وقد رأيت ناسًا منهم يبهرجون أشعار المولدين ويستسقطون من رواها؛ ولم أر ذلك قط إلا في راوية للشعر غير بصير بجوهر ما يروي، ولو كان له بصر لعرف موضع الجيد ممن كان وفي أي زمان كان.... إلى أن قال: والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي؛ وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع وجودة السبك؛ فإنما الشعر صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير ...

ونقول إن الفرق بين المولد والأعرابي أن المولد يقول بنشاطه وجمع باله الأبيات اللاحقة بأشعار أهل البدو، فإذا أمعن انحلت قوته واضطرب كلامه. ا. هـ "ج٣ ص٤٠: الحيوان".

قلت: وإذا كان الشعر ضربًا من الصبغ وجنسًا من التصوير فلا ينبغي أن يكون كله ماء ورونقًا، وهو اللون اللبليغ الذي يريدونه؛ لأن تصوير الحياة العامة يحتاج إلى الألوان الكثيرة؛ وربما دخل فيها

<<  <  ج: ص:  >  >>