أقبح الألوان فكان أحسن شيء، لوقوعه مع المناسبة بين الألوان الأخرى.
على أن المحدثين قد خالفوا العرب في كثير من الشعر إلى ما هو أليق وأمس بأزمانهم، ولكن ذلك إنما كان من تأثير العصور عليهم ضرورة ولم يتجاوزوا به التشبيه والأوصاف، أما فنون الشعر فبقيت على ما تركها العرب، إلا ما كان من التصرف القليل في بعضها -كما ستعرفه- وأول من عد هذه الفنون وميز الشعر بها تمييزًا أخذ عنه، أبو تمام؛ فإنه رتب كتاب الحماسة في عشرة أبواب: هي الحماسة، والمراثي، والأدب، والتشبيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء، ثم جاء عبد العزيز بن أبي الأصبغ فجعلها بعد التتبع والاستقصاء ثمانية عشر: وهي الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والأدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، والملح، وباب مفرد للسؤال والجواب.
وقد ذكر الثعالبي في ترجمة ابن حجاج الشاعر الهذلي الكبير وكان في القرن الرابع، أن البديع الأسطرلابي رتب ديوانه على مائة وأربعين بابًا وواحد؛ ثم قفى كل باب وجعله في فن من فنون شعر الزجل، ولكن هذه الفنون غير متباينة في تنوعها، بل ربما كان منها مائة نوع من الهجاء والسباب وحده، والباقي في المديح وغيره.
فأنت ترى أن تلك الفنون جميعها متداخل بعضها في بعض من حيث الوصف الشعري، وإنما هي أسماء نوعية تتباين مسمياتها بالحالة إلا بالذات، فإن الشعر في الأعم الأغلب واحد في جميع تلك المتناقضات والمتشابهات من حيث روحه وأسلوبه والمبدأ الذي يأخذ منه والغرض الذي ينتهي إليه، ولكن أحواله متعددة بحسب اختلاف تلك الأنواع، فإن حالة الرثاء وصفة الفجيعة مثلًا غير حالة الشعر الخمري وصفة الطرب والانشراح.
ولكن تنوع الشعر في الحقيقة إنما يكون ذاتيا، أي: في الروح والأسلوب والمبدأ والغرض، فروح الشعر هو نوع التأثير الذي يخلقه الشاعر فيه، والأسلوب هو الطريقة التي يخصص بها نوع هذا التأثير، والمبدأ هو المعنى النفسي الخاص الذي يكيف به الشعر المؤثر، والغرض هو المعنى العام النفسي الذي يقصده من التأثير.
وبذلك يكون الشعر تمثيلًا حقيقيا للحياة؛ لأن الحياة مجموع من العادات العملية والانفعالية والذهنية مرتبة ترتيبًا منظمًا يؤدي إلى سعادة أو شقاء، ويسوق إلى الأقدار أيها كان؛ والناس كذلك مختلفون في قيمة التأثر بأحوال هذه الحياة، ونوع هذا التأثر، وفي المبادئ الخاصة التي تبنى عليها تلك الأحوال، والأغراض العامة التي تساق إليها، فالشاعر ينبغي أن يكون قوة من قوى الطبيعة التي تساعد في تكوين هذا الاجتماع على حالة من أحواله المختلفة، والقوى الطبيعية كلها متغايرة متباينة، ولكن هذا التغاير فيها إنما هو شكل الانتظام الذي قامت به الحياة. والذي يحتاج إلى المطر لا يشترط في السحاب أن يجيء من هنا أو من هناك، ولا أن يكون قد تصاعد من بحر كذا أو غيره، ولا أن يساق بريح شديدة أو لينة؛ وكذلك الشاعر لا يقيد في شعره بنوع أو حالة؛ لأن الشعر قوة مؤلفة من