وكان من ذلك شيء قليل في أشعار المتقدمين يركبون فيه صنعة جافية تتخون محاسنه وتعفي على معنى الغزل فيه، إذ كانوا يطردونه؛ وأشهر ما في ذلك قول جرير:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
وممن انفرد بطريقته في النسب بعد البحتري وشهر بالغزل خاصة، أبو الوليد بن زيدون، وهو الذي لقبه أهل الأندلس ببحتري المغرب، وقصائده مشهورة، وخصوصًا النونية التي يتشوق بها إلى ولادة، وكذلك أبو الوليد بن الجنان من شعراء الملك الناصر صاحب الشام في القرن السابع، قال ابن سعيد المغربي: ومقاطيعه الغرامية قلائد أهل الغرام "ص٣٧٩ ج١: نفح الطيب". وكان في ذلك القرن أيضًا أبو الفضل زهير الشهير ببهاء الدين، وهو صاحب الديوان المشهور الذي يقال في غزله إنه السهل الممتنع، وقد انفرد بهذه الطريقة حتى لا يذكر معه فيها أحد من المتأخرين إلا تابعًا، ثم تتابع الشعراء بعد هؤلاء وكلهم ينسبون وأكثرهم يجيدون، ولكنا لا نعرف لواحد منهم طريقة يتبع فيها بل كلهم، إلا ما اشتهروا من السخافات، كالغزل الممقوت الذي يصفون فيه الأحداث والمخنثين، وكان منشأ ذلك في أوائل الدولة العباسية بعد اقتناء المماليك من الروم والترك وغيرهم؛ ولبعض خلفائهم ولع به واستهتار، كالمعتضد وغيره، وليس هذا موضع شرحه ولا تاريخه، وقد رأينا لبعض المتأخرين فيه كتابًا مطبوعًا، ولكننا ننزه كتابنا عن الإشارة إليه.
ويدخل في تاريخ النسيب بعض المذاهب الصناعية التي استحدثت فيه، ونخص بالذكر من ذلك مذهبين: الأول ما سلكه المتنبي من التغزل بممدوحه، وقد نبه عليه الثعالبي في "اليتيمة"، والثاني ما استنه الوزير الطغرائي من الجمع بين مدح فتيان الحي والتغزل بفتيانه، وقد شغف بهذه الطريقة من المتأخرين ابن معتوق الموسوي وأكثر غزله فيها.