للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بني أمية، قليل [المحاشاة] لأحد، وكان يهجو محمد بن هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي، فلما رأى أنه لم يبلغ منه ولم [يُمِضّه] جعل يشبب بأمه وامرأته "ص١٦١ ج١: الأغاني" وينسب بهما، وخصوصًا أمه، على تلك الطريقة من حكاية الوقائع وافتراء الإفك، لا لمحبة ولا لمعنى من معاني الغزل "ص١٥٤ ج١: الأغاني"؛ ولكن ليفضح الرجل بإشاعة الشعر على ألسنة المغنيين؛ وليس يؤخذ بالنسيب هذا المأخذ إلا وقد استقامت طريقته تلك بما يمتهد لها من الأعراض ويوطأ من الأخلاق؛ ولذلك صار الأشراف والأمراء يتقون تلك الألسنة أكثر مما يتقون العيون المريبة بعد أن شددوا في الحجاب وفرقوا بين الرجال والنساء في الطواف، وذلك في إمارة خالد القسري عامل سليمان بن عبد الملك على مكة، إذ بلغه قول بعض الشعراء "ص١١٦ ج٢: المسعودي":

يا حبذا الموسم من موقف ... وحبذا الكعبة من مسجد

وحبذا اللاتي يزاحمننا ... عند استلام الحجر الأسود

فتحولت الأخلاق يومئذ في سواد الأمة بهذا النسيب، حتى كان من الأشراف من يحاول أن يعيد الأخلاق العربية، كعبد العزيز بن مروان [والي] عبد الملك على مصر، فإنه كان لا يعطي شاعرًا شيئًا حتى يذكر أمه في مدحه لشرفها، فكان الشعراء يذكرونها باسمها في أشعارهم "ص١٣٦ ج١: الأغاني".

ولما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز تحامى شعراء الغزل أن يشهروا بالنساء في نسيبهم، وتحولوا عن طريقة ابن أبي ربيعة، حتى إن النصيب الشاعر المقدم في ذلك لم يأخذ جائزته إلا بعد أن شهدوا له أنه عاهد الله أن لا يقول نسيبًا يشهر به النساء "ص١٣٨ج١: الأغاني" واستمر أكثرهم على ذلك لا ينسب إلا تملحًا واستجمامًا على غير ريبة ولا فاحشة، ومالوا في ذلك إلى طريقة العرب، إلا ما لا بد منه من صنعة الأخلاق التي تناسب الغزل والتشاجي، حتى ظهر أبو المحدثين بشار بن برد، فأفرط في الصنعة؛ لأنه كان أعمى، وبالغ في تصوير الإحساس ليمتاز بذلك على المبصرين "وهو والأعشى معدودان كذلك عندهم" فكان سبيله إلى هذا الغرض أن نصب في شعره حبائل الشيطان وزخرفه بتزويق اللسان وقارب في غزله الناس بما كان يجتزئ ابن أبي ربيعة بنظره عن التحدث به في النسيب، حتى [اشتهر] نساء البصرة وشبابها بشعر بشار، وانتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهدي بن المنصور العباسي، وكان أشد الناس غيرة، فنهاه عن ذكر النساء وقول التشبيب "ص٤١ ج١: الأغاني" ثم ظهر بعد ذلك أبو فراس والعباس بن الأحنف، وهذا الأخير ليس في شعره مديح، إنما هو مصروف إلى النسيب يتوخى فيه صفة المعنى لا صفة الحكاية، وشعره عكس شعر الفرزدق؛ لأنه كان لا يقول في الغزل "ج١: البيان" والعباس لا يقول إلا فيه.

ومن ذلك العهد شاع النسيب والتحم بالشعر، ورغب فيه الخلفاء من شعرائهم حتى إن الرشيد أمر بحبس أبي العتاهية والتضييق عليه لما تزهد وآلى على نفسه أن لا يقول شعرًا في الغزل "ص١٦٠ ج٣: الأغاني"؛ ثم أضاف البحتري إلى النسيب معنى تعلق به وردده في شعره واستقصاه، حتى كان الباب الذي شهر به على أنه أرق الناس نسيبًا وأملحهم طريقة، وذلك المعنى هو ذكر الطيف والخيال،

<<  <  ج: ص:  >  >>