على مقدار شعره، ولا هي في وزن براعته، ولكنها جاءته من ذكره في الحديث الشريف، وما زين به الرواة أخباره وشعره حتى كأنما عوضه الدهر من ملك النسب ملك الأدب، ولكن ذلك إنما يعتريه إذا قرأ بعض ما نسب إليه لا جميعه؛ لأن في شعره منحولًا كثيرًا، وبعضه يلائم ديباجته فيكاد يلتحم به حتى لا يميزه إلا دقيق النظر، ولا برهان لدينا على النفي والإثبات في شعر مثل امرئ القيس ومنزلته ما هي؛ وليس من شاعر أو راوية إلا وقد أحب أن يكون له في كلامه لفظ أو معنى، ولذلك تعاوروا ألفاظه بالتغيير والتبديل، وأدخلوا في شعره ما ليس منه، وقد نص بعضهم على أنه لم يصح له إلا نيف وعشرون شعرًا بين طويل وقطعة "ص٦٧ ج١: العمدة" ولذا نفى الأصمعي الأبيات المروية التي يقول فيها:
ألا إلا تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
وقال إن امرأ القيس لا يقول مثل هذا، وأحسبه للحطيئة. فما استطاع أن يستدل على ذلك إلا بقوله فيها:
فتوسع أهلها أقطًا وسمنًا ... وحسبك من غنى شبع وري
لأن مثل هذا لا يقوله من يذكر عن نفسه أنه لا يقتصر إلا على الحصول على الملك "ص١٧٥: شرح ديوانه". وإنما يناسب مثل الحطيئة لما في شعره من الجشع والضراعة.
وقد بالغوا في الحمل عليه حتى كأنه دابة الشعر، فنسبوا له سخف القول وساقط الكلام وما يجري مجرى الهذيان؛ ورأيت في بعض نسخ ديوانه قصيدة لامية أشبه شيء بالجلجلوتية وشعر الطلاسم، منها:
فكم كم وكم كم ثم كم كم وكم وكم ... قطعت الفيافي والمهامه لم أملّ
وكاف وكفكاف وكفي بكفها ... وكاف كقوف الودق من كفها انهمل
وهذا المغفل الذي نحله هذه القصيدة جرى في بعضها على قياس قوله في القصيدة التي تروى له "ص١١٩: من ديوانه":
وسن كسنيق سناء وسنم ... ذعرت بمدلاج الهجير نهوض
ولعل هذه "الكمكمة" من قول محمد بن مناذر البصيري في معنى التكثير "ص٦٠ ج٢: العمدة". غير أن الناقد البصير يستطيع أن يتبين أسلوب امرئ القيس من قراءة قصيدتين أو ثلاث مما صح له، فيستخلص منها صفات شعره التي ميزته بالتقديم وجعلته أمير الشعراء وصاحب لوائهم؛ إذ كان أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وقبل أن نأتي على شيء من ذلك نذكر نشأته الشعرية وما استخلصناه من الأسباب الطبيعية في شهرته:
كان امرؤ القيس يروي شعر أبو دؤاد الإيادي ويتوكأ عليه "ص٦١ ج١: العمدة" وهو فحل قديم كان أحد نعات الخيل المجيدين. قال الأصمعي: هم ثلاثة: أبو داؤد في الجاهلية، وطفيل، والجعدي. قال: والعرب لا تروي شعر أبي دؤاد وعدي بن زيد، وذلك أن ألفاظهما ليست بنجدية "ص٣٨: الطبقات".