فلو أن امرأ القيس لم يكن من أهل نجد لكانوا قد أهملوا رواية شعره ثم هو كان يعرف أن امرأ القيس بن حذام يبكي في شعره الطلول؛ فأخذ ذلك عنه كما أخذ صفة الخيل عن أبي دؤاد، وتراه يحاول أن يلحقه في إجادة نعتها والشهرة بذلك؛ حتى لا يخلو أكثر شعره من هذا الوصف.
وقد كان يعاصره من الشعراء المعروفين: علقمة بن عبدة، وعبيد بن الأبرص؛ والشنفرى، وأبو دؤاد، وسلامة بن جندل، والمثقب العبدي، والبراق بن روحان، وتأبط شرا، والتوأم اليشكري؛ وكان من حشم أبيه شاعر اسمه عمرو بن قصبة، وهو الذي ذكره في قصيدته التي قالها حين توجه إلى قيصر، وذلك في قوله:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
وكل هؤلاء لم يقع للرواة من شعرهم مقدار ما وقع في أيديهم لامرئ القيس؛ فكان ذلك سببًا من أسباب تميزه وانفراده.
وثم سبب آخر، وهو أن الذي في يد العلماء من أهل الغريب والعربية وعلماء البيان لا يجتمع منه لشاعر واحد جاهلي ما اجتمع لامرئ القيس؛ وهو عندهم طبقة متميزة لفصاحته وقدمه؛ فشعره أشبه شيء بأقدم كتاب في اللغة عند من يظفر به من المتأخرين، وكأنما كان بعضهم يجله عن الانتقاد في ألفاظه؛ فكل ما استعمله فصيح من حيثما تلقفه وكيفما جاء به، وإن كان ذلك لا شك في صحته دون فصاحته؛ فإن أهل النظر من علماء البصرة يقولون في تأويل بيته:
لها متنتان خظاتا كما ... أكب على ساعديه النمر
إنه لما جاور في طيء علق من لغتهم، وهم يقلبون الياء ألفًا؛ يقولون في رضينا: رضانا؛ وكذلك خظاتا أصله خظيتا؛ فقلب الياء الفًا؛ وهي لغة لم يلتزمها الشاعر، ولا وجه لها إلا أن يكون ميزان لسانه قد تعطل في هذه الكلمة كما تعطل في غيرها؛ فانحدرت منه ثقيلة غثة باردة؛ والعجيب أن علماء المعاني والنحو والعروض انتقدوه جميعًا وأخذوا عليه أشياء كثيرة؛ ولكن مات الانتقاد وبقيت الألفاظ حية، حتى إن أكثر ما قالواه لا يعرف اليوم ولم يورد منه شراح ديوانه إلا القليل؛ ولعلهم فعلوا ذلك ليتكافأ الانتقاد مع شهرة الرجل، وهؤلاء أصحاب البيان ما زالوا يطأطئون من الغدائر المستشزرات في كلامه ويضربونها مثلًا في التنافر والثقل، ولكن "مستشزرات" هذه كانت قد رسخت قبلهم حتى لم يستطيعوا أن يحدروها عن منزلتها من الشهرة، وذلك من عجائب امرئ القيس، فإن له ألفاظًا وإن كانت أحجارًا، إلا أنها ثابتة من شهرته في جبل.
والعلماء بالشعر يقولون إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء؛ لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها؛ لأنه أول من لطف المعاني، ومن استوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه؛ وقلما يخلو كتاب في الأدب من هذه الكلمة، وهي مع ذلك مقبولة كأنها ناموس من نواميس الطبيعة في شهرة هذا الشاعر، على أنها -كما ترى- لم تعزز ببرهان، ولم يمسكها دليل، فليس ما يمنعنا أن نمسها بالمحك فنخلص إلى حقيقتها.