أما أنه أول من لطف المعاني واستوقف على الطلول إلخ، فلا يكون دليله إلا تتبع كلام العرب ممن كانوا قبله، وإدارة الآذان في هواء الجزيرة من أكنافه، وهو شيء لا يصدق مدعيه كائنًا من كان؛ لأن العرب أنفسهم أهملوا رواية كلام أبي دؤاد كما ذكر الأصمعي، وسبيله سبيل غيره، فضلًا عمن أهملهم الزمن وجلدت صدورهم التي هي دواوين أشعارهم بصفحات من الكفن، وانظر ما معنى قول ذلك القائل:"وإنه أول من فرق بين النسيب وما سواه من القصيدة" فإن هي إلا كلمة مولد قصير النظر في مطارح الكلام، كأن شعراء العرب كلهم كانوا على سنة المولدين من افتتاح القصيدة بالنسيب ثم التخلص بعد ذلك إلى ما يأخذون فيه من المعاني، وهو رأي لم يقل به أحد؛ ولا يزال في القصائد المروية قبل امرئ القيس بقية من القوة على تكذيب.
وأما أن هذا الشاعر أول من قرب مآخذ الكلام، فقيد الأوابد، أجاد الاستعارة والتشبيه، فهو الصحيح، ولكن لا على أن أول من ابتدأ ذلك، بل على أنه أول من اشتهر به وابتدع فيه، وجملة ما حفظ له منه أشياء معدودة، غير أنها لو توزعها شعراء الجاهلية لزانتهم جميعًا.
بقي سبب آخر من أسباب شهرة امرئ القيس في العرب وبقاء شعره على ألسنتهم وهو أنهم يجدون في بعض كلامه رقة المنادمة وطرب الخمر وفتور الغزل وغير ذلك مما هو من حظ القلب، ثم هم يرونه إذا أخذ في غير هذه المعاني يطبع ألفاظه على قالبها من الاستعارة والتشبيه، فإذا قابلوا ذلك بخشونة غيره وانصرافه إلى أوصاف البداوة، وجدوا في شعره كالظل الذي يفيء، والماء الذي يجري والحسن الذي يتميح، والنسيم الذي يترنح؛ فكان ولا جرم كأنما يستهويهم استهواء، وكان مجموع شعره في البدو حضارة وفي الحضر بداوة؛ وهذا مروان بن أبي حفصة الشاعر أنشده العتبي لزهير، فقال: هذا أشعر الناس، ثم أنشده للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشده لامرئ القيس فكأنما سمع به غناء على الشراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس "ص٩: الطبقات" ومروان شاعر [في صميم] الحضارة، فكيف بالعرب؟ وعندي أن هذا أعظم ما تتميز به شاعرية امرئ القيس؛ لأنه دليل الصنعة [تبرز على] الطبع، والطبع الذي يبلغ في سموه مبلغه بالصنعة؛ وهو الدليل الذي لو سقط من شعره لسقط بشعره لا محالة.