للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فنعت فرسه والصيد حتى فرغ، وكان في قول امرئ القيس:

فللساق ألهوب وللسوط درة ... وللزجر منه وقع أهوج منعب

وفي قول علقمة:

فأقبل يهوي ثانيًا من عنانه ... يمر كمر الرائح المتحلب

فتحاكما إليها، فقالت: هو أشعر منك؛ لأنك ضربت فرسك بسوطك وامتريته بساقك وزجرته بصوتك وأدرك فرس علقمة ثانيًا من عنانه. "ص٧٧: ديوان امرئ القيس".

وفي رواية أخرى أنهما احتكما إلى أم جندب لتحكم بينهما، فقالت: قولا شعرًا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة، فأنشداها جميعًا، فلما حكمت لعلقمة قال امرؤ القيس: ما هو بأشعر مني ولكنك له وامقة؛ فطلقها فخلفه عليها علقمة. "ابن قتيبة".

وما رأيت أحدًا من أهل النقد وازن بين القصيدتين، بل كلهم متبعون كلمة هذه المرأة، وبعضهم لا يعرف ما كان بينها وبين امرئ القيس فيقول إنهما تحاكما إليها في المفاضلة بينهما؛ لأنها من ذوات العقل والمعرفة. مع أن علقمة معدود من الشعراء المغلبين وامرؤ القيس يقول في قصيدته:

وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف، ولم يغلبك مشل مغلب

وما أرى أم جندب إلا أرادت ما تريد الفارك من بعلها، فقرعت أنفه على حمية ونخوة وهي تعلم أنها لا بد مسرحة في زمام هذه الكلمة، وإلا فالبيت الذي توافيا على معناه ليس بموضع تفضيل؛ لأن في قصيدة امرئ القيس ما هو أبلغ في هذه الصنعة من بيت علقمة، وهو قوله:

إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه ... تقول هزيز الريح مرت بأثأب

وقد مر شرحه وبيان وجه البلاغة فيه، ولكن من التمس عيبًا وجده، ومن تدبر صنعة امرئ القيس للخيل في شعره وجد السوط لا يفارقه، فلعلها كانت عادته.

وقصيدة علقمة بجملتها ليست بشيء؛ لأنه كل ما فيها من الألفاظ البارعة والمعاني الحسنة مأخوذ من قصيدة امرئ القيس، حتى ليأخذ البيت برمته والشطر بحاله، ومع ذلك فقد أبر عليه امرؤ القيس، في الصنعة، وما أدري كيف هذا، فلولا أن الرواة مجمعون على أن قصيدة علقمة مما صح له لقلت إنها مصنوعة، ثم إن الذين رووا خبر هذه المنازعة منهم، وهم عمرو بن العلاء؛ وأبو عبيدة، والأصمعي، لم يزيدوا شيئًا على ما سبق، وكان طبيعيا أن يتكلم امرؤ القيس في ذلك كلمة؛ لأن علقمة إنما رد إليه بضاعته، ولن يبلغ التوارد بين الشاعرين هذا المبلغ وأحدهما يسمع من الآخر، إلا أن يكون الاثنان قد اتفقا في الأخذ عن ثالث، وهو أغرب؛ وإن صح خبر هذه المنازعة فيكون ذلك هو السبب في تعفف امرئ القيس على الشعراء وإدلاله بشعره وذهابه إلى الظنة فيه؛ لأنه رأى من استحذاء علقمة واستجدائه ما ينفخ مثله إلى حد الروم، وما زال على ضلالة حتى لقي التوأم اليشكري فقال له: إن كنت شاعرًا كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها، قال نعم، فقال امرؤ القيس:

أحار ترى بريقًا هب وهنًا

<<  <  ج: ص:  >  >>