الشاعرة الأديبة: خنساء المغرب؛ وكان منشأ ذلك أن العلماء والأدباء من أهل ذلك الصقع كانوا يرحلون إلى المشرق فيلقون الأئمة ويأخذون عنهم، ثم ينقلبون إلى الأندلس برواية ما أخذوه فيبثونه في أهلها مسندًا إلى أدباء العراق، كسوار بن طارق القرطبي مولى عبد الرحمن بن معاوية، فإنه حج ودخل البصرة ولقي الأصمعي ونظر أمره، ثم انقلب إلى الأندلس وأدب الحكم؛ ومن ولده محمد بن عبد الله بن سوار، حج أيضًا ولقي أبا حاتم بالبصرة والرياضي وغيرهما، وأدخل الأندلس علمًا كثيرًا، وقاسم بن أصبغ البياني "نسبة إلى بيانة من أعمال قرطبة" فقد سمع بالأندلس ممن كان بها، ثم رحل إلى المشرق سنة ٢٧٤هـ فسمع بمكة والكوفة وبغداد من أئمة الفقه والحديث، وكتب عن ابن أبي خيثمة تاريخه، وسمع من ابن قتيبة كثيرًا من كتبه، ومن المبرد وثعلب وابن الجهم، في آخرين، وسمع بمصر من محمد بن عبد الله العمري، ومطلب بن شعيب، وبالقيروان من أحمد بن يزيد المعلم وبكر بن حماد التاهرتي الشاعر، وانصرف إلى الأندلس بعلم كثير، فمال الناس إليه في تاريخ أحمد بن زهير وكتب ابن قتيبة وأخذوا ذلك عنه "ص٣٤٥ ج١: نفح الطيب"، ومحمد بن عبد الله بن يحيى من قضاة الناصر "توفي سنة ٣٣٧هـ" وكان شاعرًا مطبوعًا، فقد رحل إلى المشرق وسمع من ابن الأعرابي وغيره، ثم حدث عنه بالأندلس؛ وسيأتي ذكر آخرين في الكلام على علماء الأندلس.
وكانت أمهات كتب الأدب التي تؤلف بالعراق تروى في الأندلس بالسند إلى مؤلفيها، على تفاوت بين الأسانيد قوة وضعفًا، ومن ذلك قول الأمير الحكم المستنصر: لم يصح كتاب "الكامل" عندنا من رواية إلا من قبل ابن أبي قلاعة١، وكان ابن جابر الأشبيلي قد رواه قبل بمصر، وما علمت أحدًا رواه غيرهما، وكان ابن الأحمر القرشي يذكر أنه رواه، وكان صدوقًا، ولكن كتابه ضاع، ولو حضر ضاهى الرجلين المتقدمين ا. هـ "ص٣٩٢ ج١: نفح الطيب".
وقد يكون دخول العراق عند بعض العلماء من قبيل قولهم "من حفظ حجة على من لم يحفظ" لأنه عندهم زيادة في الاطلاع وتحقق بالثقة في الرواية، ولما قدم عليهم أبو علي القالي سنة ٣٣٠هـ في زمن الناصر، أمر ابنه الحكم وكان يتصرف عن أمر أبيه، أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة، ويتلقاه في وفد من وجوه رعيته، ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمة له، وباسم الحكم طرز أبو علي كتاب "الأمالي" المشهورة، وكان قبل ولاية الأمر وبعدها ينشطه ويعينه على التأليف بواسع العطاء ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام، وقد اعتنى الأندلسيون بكتاب "الأمالي" فشرحوه وألفوا على منزعه، كما فعل الشقوري رئيس كتاب الأندلس في كتابه "سراج الأدب"، وحفظه كثير منهم حتى في النساء -كما سيمر بك- ومن أجله جعلوا أبا علي أندلسيا بالموطن دون المنشأ، ليصح لهم الاختصاص به، مع أن القالي لم يكن في قرطبة أعرابيا في أعاجم، ولا كان وحده فيهم كالذهب في تراب المناجم، بل كان في قرطبة كثير منهم، وحسبك بمحمد بن القوطية، وهو الذي كان يبالغ القالي في تعظيمه، وشهد له بأنه أنبل أهل الأندلس في اللغة، وكان إمام الأدب في ذلك الزمن أبا بكر الزبيدي.
١ هو محمد بن أبي قلاعة البواب، سمع من أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش عن المبرد كتابه الكامل المشهور، وأخذ أيضًا عن أبي إسحاق الزجاجي، وأبي بكر الأنباري، وتفطويه وغيرهم.