غير أن التاريخ قد فسر هذا التفاوت؛ فإنه عدّ أبا علي حسنة من حسنات الدولة الأموية في الأندلس، حتى وقع ذلك موقع المنافسة من المنصور بن أبي عامر المتوفى سنة ٣٩٣هـ، فإنه لما قدم عليه أبو العلاء صاعد بن الحسين البغدادي اللغوي عزم على أن يعفّي به آثار أبي علي الوافد على بني أمية، ليفوز بإحدى الحسنيين، ولكنه لم يجد عنده ما يرتضيه، وكان الرجل يتنفق بالكذب -وقد مر من ذلك شيء في بحث الرواية- فأعرض عنه أهل العلم، وقدحوا في روايته وحفظه، ولم يأخذوا عنه شيئًا لقلة الثقة.
ولم يكن الشغف بالأسماء والألقاب العراقية مقصورًا على العلماء والأدباء وحدهم، بل تجاوزهم إلى الخلفاء، فإن ألقاب الأول منهم كانت: الأمراء أبناء الخلائف، ثم الخلفاء وأمراء المؤمنين، إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض، وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي ترتبت عليه، فتوثب ملوك الطوائف على الألقاب العباسية، وترفعوا إلى طبقات السلطنة العظمى، بما في جزيرتهم من أسباب الترفه والفخامة التي تتوزع على ملوك شتى فتكفيهم وتنهض بهم للمباهاة، وفي هذه الألقاب يقول ابن رشيق:
كالهر يحكي انتفاخًا صورة الأسد
وكان بنو حمود الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس، فكانوا إذا حضرهم منشد يمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم، تكلم من وراء حجاب والحاجب١ واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة؛ ولما حضر أبو يزيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني الشاعر أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمودي الذي خطب له بالخلافة في مالقة وأنشده قصيدته النونية المشهورة التي مطلعها:
ألبرق لائح من أندوين ... ذرفت عيناك بالماء المعين
وبلغ فيها إلى قوله:
انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين
فرفع الخليفة الستر بنفسه وقال: انظر كيف شئت؛ وكذلك انتحل وزراء الأندلس لقب ذي الوزارتين امتثالًا لاسم صاعد بن مخلد وزير بني العباس ببغداد، وأول من تسمى به منهم وزير الناصر, أبو عامر ابن شهيد الكاتب الشاعر الكبير، أول وزير في الإسلام "ص١١٩ ج١: التمدن الإسلامي".
ولما احتفل المأمون بن ذي النون، من أعظم ملوك الطوائف في إعذاره المشهور الذي عمله
١ لم يكن الحاجب على المعنى المصطلح عليه اليوم، بل كان هذا اللقب خاصا بكبار الوزراء، فإن قاعدة الوزارة بالأندلس كانت في مدة بني أمية مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة، ويخصهم بالمجالسة، ويختار منهم شخصًا ينوب عنه فيسميه بالحاجب، وقد عظمت هذه السمة حتى كانت أعظم ما تنوفس فيه.