ويقربونهم، ولا يألون الناس جهدًا في إقامتهم على الحق وحملهم بالسنة الواضحة، ولهم في ذلك الأخبار العريضة.
وقد كانت حركة الحياة الأندلسية حركة غزو وحرب واضطراب فتن سياسية عليها صفة الدين إلى آخر تاريخها العربي -كما ستعرفه- فكان طبيعيا أن يكون من مقتضيات فطرة ذلك الشعب، الحماسة الدينية، ولا يدل عليها كالإحساس الشديد باحترام الفقهاء، ولذلك كانت سمة الفقيه عندهم جليلة، حتى إن المسلمين كانوا يسمون الأمير المعظم منهم الذي يريدون التنويه به: فقيهًا، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي: فقيه، لأنها عندهم أرفع السمات "ص١٠٣ ج١: نفح الطيب" وفي تاريخ وزرائهم وشعرائهم وأدبائهم ما يدل على ذلك، وسنأخذ في هذا المعنى في موضع آخر. وقد كان الأندلسيون يتفقهون على مذهب الأوزاعي حتى رحل زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشيطون المتوفى سنة ٢٠٤هـ إلى الحجاز فسمع من الإمام مالك بن أنس كتاب "الموطأ"، وهو أول من أدخل مذهبه الأندلس، وكان ذلك زمن الأمير هشام بن عبد الرحمن المتوفى سنة ١٨٠هـ في فجر تلك الحضارة، وذلك طبيعي؛ لأن الناس في أدوار التاريخ الإسلامي لم يتفرغوا لعلم الأدب إلا إذا استكملوا علوم الدين أو أهملوها والعياذ بالله؛ وقد أجمع الأندلسيون قاطبة على مذهب مالك، ولا يزال ذلك في أهل المغرب لعهدنا؛ قال الحافظ بن حزم:"مذهبان انتشرا في بدي أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه، ومذهب مالك عندنا بالأندلس، فإن يحيى بن يحيى -يعني يحيى بن يحيى الليثي، وقد روى "الموطأ" عن زياد المذكور آنفًا قبل أن يدرك مالكًا، ثم أدركه فروى عنه- كان مكينًا عند السلطان مقبول القول في القضاة، وكان لا يلي قاض في أقطار الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون أغراضهم به، على أن يحيى لم يل قضاء قط، ولا أجاب إليه، وكان ذلك زائدًا في جلالته عندهم، وداعيًا إلى قبول رأيه لديهم".
وابن حزم هذا هو أول من خالف مذهب مالك بالمغرب واستبد بعلم الظاهر، ولم يشتهر به مثله أحد "ص٣٢: المعجب".
وليس اشتغال الأندلسيين بالفقه ورسائله بمانعهم أن يتدارسوا علوم اللغة والإعراب؛ إلا أنهم لم يستقصوا هذه العلوم ولم يستغرقوها؛ لأن ذلك إنما كان في الطارئين على الجزيرة وفي قليل من أهل البلاء كما مر بك بعضه؛ وقد كان الأمير عبد الرحمن الداخل شاعرًا محسنًا ولسنًا فصيحًا، وكان ابنه الأمير هشام إذا حضر في مجلسه امتلأ أدبًا وتاريخًا؛ وفي زمن هشام هذا وقد تقدمت سنه [ودنت] وفاته؛ كان بالجزيرة الخضراء منجم يعرف بالضبي؛ قال صاحب "نفح الطيب" عندما ذكر أن هشامًا أشخصه من وطنه إلى قرطبة: "وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقًا وإصابة""ص١٥٧ ج١".
وكان في زمن الحكم بن هشام، الذي ولي سنة ١٨٠هـ، شاعر اسمه العباس معروف بالشعر؛