وكان للمنصور مجلس في كل أسبوع يجتمع فيه أهل العلم والمناظرة بحضرته ما كان مقيمًا بقرطبة؛ لأنه كان مواصلًا لغزو الروم مفرطًا في ذلك لا يشغله عنه شيء، حتى إنه ربما خرج للمصلى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك فلا يرجع إلى قصره، بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولًا فأولًا؛ وقد غزا في أيام ملكه التي دامت إلى سنة ٣٩٣هـ نيفًا وخمسين غزوة.
ورأس الشعراء في أيامه عبادة بن ماء السماء المتوفى سنة ٤٢٢هـ وقيل: سنة ٤١٩هـ، وهو أول من أتقن الموشحات بالأندلس حتى كأنها لم تسمع إلا منه، وللرمادي في ذلك يد أيضًا.
ومن مشاهيرهم الرمادي وابن دراج والقسطلي ومحمد بن مسعود الغساني البجالي "ص٢٣٨ ج٢: نفح الطيب" وكان يكتب له هو ومحمد بن إسماعيل................................................
وله لطائف في الشعر فكان يخاطب المنصور بلسان النبات الذي يوافق أسماء عقائله ومحاظيه، كاسم بهار ونرجس وغيرهما، والوزير محمد بن حفص بن جابر، وأبو بكر محمد بن نهور، وغيرهم. وكان المنصور معروفًا بالمحاماة عن أهل الشعر والأدب حتى لا ينتقصهم في مجلسه أحد إلا رد عليه وسفهه؛ وقد وقع بعضهم في الرمادي عنده فكلمه كلامًا كان يغوص دونه في الأرض لو وجد لشدة ما حل به منه؛ غير أنه لما كان المنصور غزاء مواليًا للجهاد، فقد كان غبار حروبه يثور بين العلماء تشددًا في الدين، حتى فشا في العامة اتهام كل من يشتغل بالفلسفة أو يعرف بمذهب من مذاهبها حتى في الشعراء أنفسهم، وكان قليل من ذلك في زمن الحكم وأبيه، فاتهموا ابن هانئ في إشبيلية، وأساءوا المقالة فيه حتى انفصل عنها، ولما وفد الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجالي على المنصور، اتهم كذلك برهق في دينه، فسجنه المنصور في المطبق زمنًا. وقد بقيت الفلسفة مضطهدة في الأندلس بعد ذلك من عامتها، حتى ظهرت في بر العدوة -كما سيجيء- وفشا الأدب في زمن المنصور حتى صار حلية الشباب وزينة النشأة الأندلسية، ومثل ذلك يكون مبدأ عصر عظيم، وقيل إن المخانيث بقرطبة يومئذ كانوا يشتغلون به، فكان منهم فتيان أخذوا بنصيب وافر منه، ومن هؤلاء غلام للمنصور اسمه فاتن توفي سنة ٤٠٢هـ، قالوا: كان لا نظير له في علم العرب "ص٩٠ ج٢: نفح الطيب".
وسار الأدب في وجهته غير مبال بقيام الملوك وسقوطهم؛ لأنه لا يقوم بهم ولا يسقط معهم إلا في أوائل نشأته، إذ يحوطونه ويكفلون نموه، وإلى أن انفرطت دولة بني أمية وانتشر سلك الخلافة في المغرب كان الأمراء لا ينفكون يتعاهدونه؛ فكان الناصر علي بن حمود من البربر -وهو الذي ملك ملك قرطبة بعد الأربعمائة وقيل: سنة ٤٠٨هـ- على عجمته وبعده من فضائل اللسان، يصغي إلى الأمداح ويثيب عليها، ومظهرًا في ذلك آثار النسب العربي والكرم الهاشمي؛ ومن مشاهير الذين امتدحوه ابن الخياط القرطبي، وعبادة بن ماء السماء "ص٢٢٥ ج١: نفح الطيب". ولما ولي المستظهر سنة ٤١٤هـ "من خلفاء الدولة الأموية الثانية" عكف على الأدب، وكان شاعرًا مصنعًا بديع الشعر، فاشتغل عن تدبير المملكة بالمباحثة مع أبي عامر بن شهيد الشاعر الكبير؛ وأبي محمد بن حزم