وبين النفس في الشعرين ما بين ستين سنة قبل الهجرة ومائة وتسعين بعدها.
ولا يلتزم في التسميط هذا النوع المخمس، بل قد يجاء به على ثلاثة أقسمة، كهذا الذي يروونه لغير مسمى:
خيال هاج لي شجنا ... فبت مكابدًا حزنًا
عميد القلب مرتهنا ... بذكر اللهو والطرب
سبتني ظبية عطل ... كأن رضابها عسل
ينوه بخصرها كفل ... ثقيل روادف الحقب
وهي أربعة قطع أوردها في "تاج العروس". وربما جاءوا في مطلع القصيدة بخمسة أبيات أو أربعة على قافية واحدة، ثم يأتون بالأقسمة الأربعة بعد ذلك ويتبعونها بالقسيم الذي فيه عمود القصيدة، كنحو الذي ينسب لامرئ القيس، ولا فائدة من التمثيل لذلك؛ إذ هي قطع معدودة تتنفس قوافيها بشيء من الضعف ومرض الذوق، ولم ينسحب على أذيالها إلا المتأخرون؛ ولكنهم خصوا التخميس بما كان على خمسة أجزاء، وسموا ما كان على أربعة مربعًا، وما كان على ستة مسدسًا، وهكذا إلى الثمانية.
وقد نقل الزبيدي في "تاجه" عن أبي إسحاق أن كل ما اختلطت قوافيه فهو المخمس، فالمتأخرون إنما رتبوا الأسماء، وكان ذلك لإكثارهم من هذه الأنواع، حتى يكون كل نوع مميزًا باسمه؛ ولكنهم هجموا من ذلك على شنعة مرذولة، وهي تناولهم أشعار الناس وتخصيصها بالتشطير والتخميس؛ وما لذلك قصد الذين وضعوا هذه الأنواع، ولا هو شيء في أصل الفطرة الشعرية، ولكنها المنافسة في الصناعة جعلت النابغين منهم ينهجون هذا المنهج، ليظهروا أن فيهم فضلًا وبقية من المتقدمين، بما يزيدون في معانيهم التي ربما يكون صاحبها قد أماتها ولم يترك فيها مطمعًا، ويلمون ويشدون في ألفاظهم وتراكيبهم، من أجل ذلك كانوا لا يقصدون إلا القصائد الشهيرة المجمع على بلاغتها، والأبيات النادرة، كما فعل الصفي الحلي وغيره.
ولكن الزمن طمس على هذا الأصل، وصارت تلك الأنواع في الشعر الجيد أشبه بالزيادة في تراب الميت: لا يجدد موته ولكنه وسواس وعيث.
أما أصل التشطير فلم نقف على كمه فيه للمتقدمين، ولا نظنهم تكلموا في ذلك، إذ هو مقصور على تعلق الشاعر بكلام غيره، وذلك من صنع المتأخرين، أما المتقدمون فكانت لهم المعارضة ونحوها مما لا يضطلع به إلا قوي جريء، وهو أدل على حقيقة المقارنة والتنظير بين الكلامين -ولكنا نظن أن أصله ما يسميه العرب بالتمليط والممالطة، وذلك كالذي رواه أبو عمرو بن العلاء من أمر امرئ القيس، وكان يدل بشعره ويتعنت به على الشعراء، فلا يزال ينازع من قيل له إنه يقول الشعر، حتى نازع التوأم جد قتادة بن الحارث بن التوأم١. فقال له: إن كنت شاعرًا فملط لي أنصاف ما أقول
١ في رواية العمدة لابن الرشيق "ص١٣٥ ج١" أنه التوأم اليشكري، واسمه الحارث بن قتادة، والرواية التي أوردناها لصاحب تاج العروس، نقلها عن أبي عمرو، ونقل صاحب العمدة عن أبي عبيدة عن أبي عمرو. والاختلاف بينهما عجيب كما ترى!