فأعملوه، فقال: وضح الصبح لذي عينين، "فصار مثلًا يضرب في وضوح الشيء" ثم قال: هذا رجل أسره جيش قاصد لكم، ثم أطلق بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق أن لا ينذركم فعرض لكم بما فعل: أما الصرة من التراب فإنه يزعم أنه قد أتاكم عدد كثير، وأما الحنظلة فإنه يخبر أن بني حنظلة غزتكم، وأما الشوك فإنه يخبر أن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم أو بعدهم إن كان حلوًا أو حامضًا، فاستعد الأحوص. وورد الجيش كما ذكر قيس!
هذا عند العرب في جاهليتها، وأما بعد الإسلام فكان مثل هذا قليلًا، كالذي روي من أن معاوية بن أبي سفيان مازح الأحنف بن قيس، فما رؤي مازحان أوقر منهما، فقال له: يا أحنف، ما الشيء الملفف في البجاد؟ فقال: السخينة يا أمير المؤمنين. أراد معاوية قول الشاعر١:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجيء بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن ... أو الشيء الملفف في البجاد
تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد
"انظر ص١٠٠ ج١: الكامل للمبرد؛ في حب بني تميم للطعام" والملفف في البجاد وطب اللبن؛ وأراد الأحنف أن قريشًا كانت تعير بأكل السخينة، وهي حساء من دقيق يتخذ عند غلاء السعر وعجف المال وكلب الزمان. وكان معاوية قرشيا والأحنف تميميا.
ومثل هذا ما أورده الجاحظ في كتاب "البيان" "ص٢١٤ ج١": دخل رجل من محارب قيس على عبد الله بن زيد الهلالي وهو عامل على أرمينية وقد بات في موضع غدير قريب منه ضفادع، فقال عبد الله للمحاربي: ما تركتنا أشياخ محارب ننام في هذه الليلة لشدة أصواتها! قال المحاربي: أصلح الله الأمير، إنها أضلت برقعًا لها فهي في ابتغائه! أراد الهلالي قول الأخطل:
تنق بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
وأراد المحاربي قول الشاعر:
لكل هلالي من اللؤم برقع ... ولابن هلال برقع وقميص
[ثم] فشت صنعة المعمى فتلاحنوا بالإشارة والتصحيف وغيرهما, كما ذكر.
ودخل أبو القاسم القطان على الوزير الزينبي يهنيه بالوزارة، فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح ورقص؛ فلما خرج قال الوزير لبعض أهل سره: قبح الله هذا الشيخ، إنه يشير برقصه إلى قولهم: ارقص للقرد في دولته.
١ تروى هذه الأبيات ليزيد بن عمرو بن الصعق، وذكر الجاحظ أنها لأبي الجاحظ المهوش الأسدي، وفي شرح الكامل: ذكر ابن حبيب أنها لأبي المهوش الفقعسي، وذكر دعبل أنها لأبي الهوس الأسدي. ولتعيير قريش بالسخينة وتميم بحب الطعام وشدة الشره, لكل ذلك أسباب ليس هذا موضع إيرادها "ص١٤١ج٢: الخزانة الكبرى".