للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما فشت صنعة المعمى تلاحنوا ببعض أنواعها، ومن ذلك ما ذكره المقري صاحب "نفح الطيب" في الملاحنة بالتصحيف، من أن المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، فكشفت وجهها وتكلمت بغير حياء، وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون الجبس، والجيارين الذين يصنعون الجير بأشبيلية، فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين وقال: يابن عمار، الجيارين! ففطن إلى مراده وقال في الحال: يا مولاي، والجباسين! فتحير الحاضرون في ذلك، فسألوا ابن عمار، فقال له المعتمد: لا تبعها منهم إلا غالية! وذلك أن المعتمد صحف "الحيا: زين" بقوله الجيارين، إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان عندها حياء لازدانت؛ فقال له: والجباسين، يريد به على التصحيف "والخنا: شين" أي: هي وإن كانت جميلة لكن الخنا شانها.

والغاية التي لا يلحق شأوها ما حكاه بعض أهل البديع في مبحث التصحيف عن بعض ملوك المغرب أنه طلب بنت أحد وزرائه فأبى ذلك، فأحضره الملك في ديوانه فقال له: أندلسي، يعني "أبذل شيء" فقال الوزير: أندلسي! يعني "أبذل بيتي"، فقال الملك: أندلسي، يعني "أبذل شيء" أي: إن البيت أحقر شيء. فقال الوزير: أندلسي، يعني "أبذل بنتي" فقال الملك: أندلسي، يعني "أبدل نيتي" أي: أرجع عن نيتي لعزلك وظلمك!.

ويقال إنها حكاية مخترعة. ذكر ذلك الصفي في ديوانه. ولكن اللحن الكتابي قليل في المروي عنهم، وهو على غير قاعدة ولا تواطؤ بين المتلاحنين، ولذلك لم يعد أن يكون كالملفوظ به، [ومنه] ما روي عن الصاحب أن أديبًا رفع إليه كتابًا يطلب عملًا وفي آخره: إن رأى مولانا فعل إن شاء الله!

فرد إليه الكتاب، وتواتر الخبر بحصول التوقيع فيه، ولكن الرجل أقبل عليه يراجعه فلم ير فيه توقيعًا حتى عرضه على أبي العباس الضبي فتفقد أحرفه حتى ظفر بألف وقع بها الصاحب عند قوله: "فعل إن شاء الله" فكانت بعد التوقيع "أفعل ... " ونحو ذلك: إن الملأ يأتمرون بك.

وقد بسطنا جانبًا من الكلام في هذا توطئة للبحث في الألغاز والمعمى؛ لأنهما بسبيله؛ ولأن الملاحن في هذه اللغة قليلة حتى إن ما لم نذكره منها لا يزيد على ما ذكرنا فيما نعلم، وبعضه يكاد يظهر أنه مصنوع، كهذا الخبر الذي يقولون فيه إن بعض الملوك عزم على قصد عدو له، فقدم ربيئة يتجسس أحواله، فلما صار إلى أرض العدو، شعروا به فقبضوا عليه وأمروه أن يكتب لصاحبه كتابًا يذكر له أن وجد القوم ضعفاء ويطمعه فيهم ويزين له غزوهم، فكتب:

"أما بعد فقد أحطت علمًا بالقوم، وأصبحت مستريحًا من السعي في تعرف أحوالهم وإني قد استضعفتهم بالنسبة إليكم، وقد كنت أعهد من أخلاق الملك المهلة في الأمور والنظر في العاقبة، ولكن ليس هذا وقت النظر في العاقبة، فقد تحققت أنكم الفئة الغالبة بإذن الله، وقد رأيت من أحوال القوم ما يطيب به قلب الملك: نصحت فدع ريبك ودع مهلك والسلام".

فلما انتهى الكتاب إلى الملك قرأه على رجاله فقويت قلوبهم وصحت عزائمهم على الخروج، ثم إن الملك خلا بخاصته من الكبراء وأهل الرأي، وقال: أريد أن تتأملوا هذا الكتاب، فإني شعرت منه بأمر، وإني غير سائر حتى أنظر في أمري. فقال بعضهم: ما الذي لحظ الملك في الكتاب؟ قال: إن

<<  <  ج: ص:  >  >>