أنشدهما أبو عثمان الأشنانداني وقال: يصف نارًا جعلها شعثاء لتفرق أعاليها، كأنها شعثاء الرأس، وغبراء يعني غبرة الدخان، وقوله: بها توصف الحسناء، فإن العرب تصف الجارية فتقول: كأنها شعلة نار! وقوله: دعوت بها أبناء ليل، يعني أضيافًا دعاهم بضوئها فلما رأوها كأنهم من السرور بها معطشون قد أوردوا إبلهم.
وكذلك أورد [السيوطي] مما وقع به الإلغاز من حيث اللفظ والتركيب والإعراب كقول بعضهم:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
ومعناه: أقول لعبد الله لما سقاؤنا وهى، أي: ضعف، ونحن بهذا الوادي: شِمْ، أي: شم البرق عسى يعقبه المطر، وقرينة هاشم لعبد شمس أبعدت فهم المرد، وكتب "وها" بالألف للإلغاز.
ثم قال: وأما إلغاز أئمة اللغة فالأصل فيه ما قال أبو الطيب في كتاب "مراتب النحويين" عن الخيل، قال: رأيت أعرابيا يسأل أعرابيا عن البلصوص ما هو؟ فقال: طائر، قال: فكيف تجمع؟ قال: البلنصى، قال الخليل: فلو ألغز رجل فقال: ما البلصوص يتبع البلنصى كان لغزًا.
وأورد السيوطي من هذا النوع قصيدة ضمنها أبو منصور بن الربيع ألفاظًا من غريب اللغة وأحضرها أبا أسامة اللغوي حين نزل بمدينة واسط على جهة الامتحان لمعرفته، فكتب المسئول جوابها لوقته مقتضبًا، وهو جواب مطول يدل على اتساع في الحفظ والرواية. وقد وقفت على قصيدة مثلها أوردها الصلاح الكتبي في "فوات الوفيات" لضياء الدين القوصي المتوفى سنة ٥٩٩هـ وقال إنه وسمها باللؤلؤة المكنونة واليتيمة المصونة في الأسماء المنكرة، ثم ذكر أن شهاب الدين القوصي سرد شرحها في معجمه عقب كل بيت، وهي قصيدة منكرة بما تحوي من اللفظ المنكر.
وقد ورد عن العرب الإلغاز بطريقة السؤال والجواب على النحو الذي ذهب إليه المتأخرون، مثل ما ذكره علي بن ظافر في كتابه "بدائع البدائه"، وهو أن عبيد بن الأبصر لقي امرؤ القيس فقال له: كيف معرفتك بالأوابد؟ قال: ألق ما أحببت، فقال عبيد:
ما حبة ميتة أحيت بميتتها ... درداء ما أنبتت سنا وأضراسا
فأجابه:
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها ... فأخرجت بعد طول المكث أكداسا
إلى آخر المحاورة في كتاب البدائع، وصفحة ٥٨ من كتاب "المعمى".
وقد ابتدأ ولع المتأخرين بهذه الألغاز من القرن السابع -وكانت المحاجة بها قبل ذلك قليلة- وذهبوا فيها كل مذهب، حتى إن أبا الحسن بن الجياب المتوفى سنة ٧٤٩هـ رئيس كتاب الأندلس وأستاذ لسان الدين بن الخطيب قد أفرد لها في ديوان شعره بابًا جاء فيه بأشياء بديعة؛ ولعل هذا الباب