أصحاب الثقافة المتوثِّبة الطموح، التي لا تظل لحظة واحدة في موقعٍ ثابت. ويترتب على هذا اختلافٌ آخر أساسي بين الحالتين: فقد حدثت حركة التعريب القديمة في إطار تفوقٍ عربي شامل، كانت فيه الشعوب التي نقلنا ثقافتها قد تدهورت، ولم يكن واحد منها ندًّا للأمة العربية التي كانت صاحبة الكلمة العليا في تلك المرحلة من تاريخها، ولا جدال في أن حركة التعريب التي تتم في ظل السيادة والتفوق تختلف كل الاختلاف عن تلك التي تتم في ظروف التراجع والانهزام، وهي الظروف التي تميز موقفنا الراهن إزاء الحضارة الغربية. هذه الأوضاع تشكل فوراق هامة ينبغي أن نعمل حسابها قبل أن نتسرع بتشبيه حركة التعريب في أيامنا هذه بنظيرتها في عهد الخليفة المأمون.
ففي عصرنا الراهن يصنع التقدم العلمي والفكري عندهم، لا عندنا، وتظهر الكتابات والأبحاث التي تقف في الصف الأول من إنتاج العقل البشري في بلادهم لا في بلادنا، وتظهر بلُغاتهم لا بلُغتنا، وهذه الحقيقة البسيطة، والأليمة في نفس الوقت تضفي على حركة التعريب في عصرنا الراهن سماتٍ ينبغي أن نواجهها بصراحة وشجاعة؛ ذلك لأنها تفرض على التعريب حدودًا لا يستطيع أن يتعداها، فإذا كان التعريب على مستوى التعليم العام، وربما على مستوى التعليم الجامعي أيضًا، ضرورةً قومية، فإنه لا يستطيع أن يمتد إلى المستويات العليا من البحث العلمي المتخصص؛ وذلك لأنه من المستحيل عمليًّا تعريب ذلك الفيض الهائل من الأبحاث التي تنتجها الدول المتقدمة علميًّا بمعدلٍ متزايد، ومن ثم يتعين على من يريد متابعة أعلى صور التقدم في ميدان تخصصه أن يقرأ ما يكتب بلغة أخرى غير العربية. وفضلًا عن ذلك فإن الفجوة بيننا وبينهم، في ظل أوضاعنا المتردية الراهنة، تزداد اتساعًا على الدوام، وفي كل عام يتدفق كمٌّ هائل من التعبيرات والمصطلحات الجديدة، وتُطرَق ميادين لم تكن معروفة من قبل، وتتراكم خبرات لم نكتسبها وتجارب لم نعشها. كل ذلك يضع أمام حركة التعريب صعوبات عملية ونظرية يكاد يكون من المستحيل التغلب عليها … وهكذا أصبحنا الآن نعيش في ظل أوضاعٍ ثقافية تحتم علينا أن ندقق ونعيد النظر في المفاهيم التي اعتدنا أن نتداولها على ألسنتنا، وأعني بها أن التعريب هو في كل الأحوال طريقنا إلى خلق ثقافةٍ قوميةٍ متميزة؛ ذلك لأن أمورًا كثيرة تتوقف على الجو العقلي والثقافي الذي يتم فيه التعريب، ففي كثير من الأحيان قد يؤدي التعريب، إذا ما حدث في إطار من التدهور الثقافي، إلى مزيدٍ من الاعتماد على الثقافات الأجنبية، وأيًّا كان الأمر، فليس من الحكمة أن نسارع إلى تشبيه حركة التعريب في عصرنا الراهن بما حدث في فترة ازدهار الحضارة العربية، وإنما