للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعل القارئ الآن قد عرف على وجه اليقين لماذا كان ذلك: لعقدة الدونية المزروعة في أعماقنا منذ قرون وقد اشتد عودها واستوت على سوقها، وجعلتنا بعد رحيل الاستعمار المادي نهفو إلى الاستعمال العقلي وننشده طوعًا واختيارًا، وننشئ مزيدًا من المدارس الأجنبية ومدارس اللغات والأقسام الجامعية الأجنبية، ونحشر فيها الأنبغ والأقدر من أبنائنا ليجري مسخه حثيثًا، ونفتح سوق العمل ونمنح أعلى الأجور لمن يجيد الرطانة ويحسن التنفُّج.

«هذا التباعد بين الإنسان العربي الحالي ولغته الأصيلة جعلها عبئًا عليه، فراح يتعامل معها كجسمٍ غريبٍ ناشز، أو في أحسن الأحوال كأثرٍ تاريخي يوهم بفخرٍ زائف: أحدهما راح يندب حظها ويرثي مآلها، ثم يتمادى في تثبيت مواقعها في سجون معاجمها وكهوف نحوها، أما الآخر فقد انصرف هربًا منها وهو يتخلى عنها سرًّا وعلانية، إهمالًا أو تشويهًا، حتى ظهرت تلك البثور المتقيحة على وجهها: إما من لغات أخرى أو من لا لغة أصلًا. لعل ما آلت إليه حال لغتنا هكذا ليس إلا إعلانًا عما آل إليه حالنا كله في أكثر من مجال، هذا الرطان المتقيح يعلن فيما يعلن عن احتمال رطان اقتصادي، ورطان اجتماعي، ورطان سياسي بشكل أو بآخر.» (١) «فما كان العلامة الأُولى على حضور العرب، كيانيًّا وإبداعيًّا، يَفسُد ويتراجع. فالعربي اليوم، بعبارة أخرى، لا «يعرف» الأساس الأول الذي عرف به الوجود، وأسس حضوره في التاريخ. لقد فقد حس اللغة، بالمغنى الذي يتحدث عنه ابن خلدون، وفي ذلك يبدو كأنه يجهل ما أعطاه هويته، أو يجهل ما هو.» (٢)

صفوة القول أنَّ ما نفعله بأنفسنا هو انتحارٌ جماعي بشع، يتضاءل بجانبه كل ما عانيناه من كروبٍ وحروب، وأن تعريب التعليم، العام والجامعي، قد أصبح ضرورة بقاء، تستدعي منا استنفار كل جهودنا وتجنيد كل طاقاتنا.


(١) د. أحمد شفيق الخطيب: تعريب العلوم - القضية، بحث ألقي في الجلسة الثانية عشرة لمؤتمر مجمع اللغة العربية المنعقدة في ١٠ أبريل، ١٩٩٤.
(٢) في التعريب والتغريب، ص ١١٠.

<<  <   >  >>