للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المتعاقبة لنموه الطبيعي … فذلك أمر يتوقف على هذه القوانين نفسها، وعلى هذه الميول وهي تمضي بضرورة لا تلين إلى نتائج محتومة» … وبعبارة أخرى فإن معرفة المجتمع لقانونه الطبيعي الذي يعين حركته لن تمكِّنه من تخطي المراحل الطبيعية لتطوره أو حذفها من الوجود بجرة قلم، وليس باستطاعته أن يفعل إلا شيئًا واحدًا: هو التقليل من آلام الوضع والتقصير من مدتها، غير أن الماركسية، وكل نزعة تاريخية حقيقية، لا تستلزم القول بالقدرية ولا تؤدي إلى التكاسل عن العمل، بل الصحيح خلاف ذلك تمامًا، فكثير من التاريخانيين تظهر عندهم ميول واضحة نحو «النزعة العملية» Activism، والمذهب التاريخاني يعلم تمام العلم أن رغباتنا وأفكارنا وأحلامنا واستدلالاتنا، ومخاوفنا ومعارفنا، ومصالحنا وأعمالنا، هي كلها قوًى مؤثرة في تطور المجتمع. ولا يقول المذهب بعجزنا عن إحداث أي شيء كان، وإنما يتنبأ بأنك لن تستطيع أن تحقق شيئًا بأحلامك أو بما يركبه عقلك طبقًا لخطة مرسومة، فلا تأثير إلا للخطط التي تتمشى مع تيار التاريخ الرئيسي. ونرى الآن على وجه الدقة أي نوع من العمل يعتبره التاريخانيون معقولًا؛ فالأعمال المعقولة ليست إلا ما يتلاءم مع التغيرات الوشيكة الوقوع ويساعد على تحقيقها؛ إذن فالتوليد الاجتماعي هو العمل الوحيد الذي يمكن أن يُعتمد عليه على أساس من بُعد النظر العلمي. إن المجتمع متغير بالضرورة، ولكنه يسير في طريقٍ مرسوم لا يمكن أن يتغير، ويمر بمراحل عينتها من قبل ضرورةٌ لا تلين، ومن ثم فالنزعة العملية لا يمكن تبريرها إلا إذا سايرت التغيرات الوشيكة الوقوع وساعدت على تحقيقها. إن خضوعنا لقوانين التطور القائمة هو كخضوعنا لقانون الجاذبية أمر لا مفر منه، وإن أكثر المواقف مطابقة للعقل هو أن يعدل المرء مجموع القيم التي يأخذ بها بحيث تصير موافقة للتغيرات الموشكة على الوقوع. (١)


(١) كارل بوبر: عقم المذهب التاريخي (بؤس الأيديولوجيا)، ترجمة عبد الحميد صبرة، دار الساقي، ١٩٩٢، ص ٦٣ - ٦٨، يقول بوبر إن عبارة «تقليل آلام الوضع وتقصير مدته» تعبر تعبيرًا بارعًا عن موقف التاريخانيين، فماركس من ناحيةٍ «قدريٌّ» بإزاء الاتجاهات التاريخية (والسنن الاجتماعية)، وهو «عملي النزعة» Activist في الوقت نفسه ويدعو، كما هو معروف، إلى تغيير العالم (لقد وقف الفلاسفة حتى الآن عند تفسير العالم على أنحاء مختلفة ولكن المهم هو تغييره!) وتأويل ذلك أن عبارتي ماركس «متنامتان» Complementary أو متكاملتان وليستا «متناقضتين» Contradictory: فهو يدعو إلى العمل المغيِّر ولكن في الحدود الصحيحة التي ترسمها الاتجاهات التاريخية، حتى يؤتي ثماره حقًّا ولا يخفق إذ يعاند السنن والنواميس.

<<  <   >  >>