للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا إسهاب مقصودٌ حتى يعلم كل من يحاول إصلاحًا لغويًّا أن عليه «أن يعمد قبل كل شيء إلى دراسة حياة اللغة، ومناهج تطورها، وما تخضع له في حياتها من قوانين؛ حتى يتميز له الممكن من المستحيل، ويستبين له ما يتفق مع السنن الكونية وما يتنافر مع طبيعة الأشياء، وحتى تأتي إصلاحاته مسايرة لهذه الطبيعة، فتؤتي أكلها وتكلل بالنجاح.» (١)

من هنا يأتي إلحاح المجددين في اللغة على معرفة السنن الخاصة بتطور العربية من أجل تطويرها على نحوٍ صحيح ناجح، يقول الأستاذ أمين الخولي: «هذا التطور يقتضينا عملًا جليلًا جبارًا في الدرس اللغوي للعربية، كشفًا لمسارب سيره ومسالك تنقله، ليكون حديثنا عن هذه العربية حديثًا صحيح الأصل سديد الخطوات، وليكون عملنا في خدمتها أو إصلاح شيء من أمرها صحيح الأساس، موفق الاتجاه، محققًا لغاية … حين يأخذ الوجهة التي يدل التطور على اتجاهها إليها.» (٢)

وفي كتابه «مقدمة لدرس لغة العرب» يقول الأستاذ عبد الله العلايلي: «إن اللغة العربية أخذت طريقها التطوري في الحياة، تمر من دور إلى دور، وتتغير تغيرًا شاملًا في أصولها وكلماتها ودلالاتها وأسلوبها ومنهجها البياني، وحتى ظهور الإسلام لم تكن قد استقرت على وجه التمام، بل ظلت غير خالصة من علائق الفوضى في غير ناحية، كالموازين وصيغ الجموع وأبواب الأفعال … إلخ، وذلك النقص لأسباب انقلابية مفاجئة، وقفت بها عند حد ما نراها مسطورة في الكتب العجمية … وقفت اللغة، ولم تنته، فكان


(١) اللغة والمجتمع، ص ١٩٨، وهنا يجمل أن نستدرك على هذا الحديث «التاريخاني» Historicist استدراكًا يخفف من غلوائه: وهو ما أوضحه كارل بوبر في مستهل كتابه «عقم المذهب التاريخي» من أن التاريخ الإنساني يتأثر في سيره تأثرًا قويًّا بنمو المعرفة الإنسانية. وحيث إن كيفية نمو المعرفة الإنسانية هي شيء لا يمكن التنبؤ به، فإن من غير الممكن التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني، ومن غير الممكن قيام نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساسًا للتنبؤ التاريخي، وإن نظرة بسيطة إلى قوى العولمة وتطور وسائط الاتصال في زمننا هذا لتؤيد كلام بوبر، فقد أتت العولمة وتكنولوجيا الاتصال بما لم يكن بوسع أحد من الأجيال السابقة التنبؤ به، ونسخت ما كان يعد، بثقة، قوانين للتطور اللغوي: من ذلك أن قوى العولمة (شاملة الفضائيات والإنترنت … ) من شأنها أن تقضي على العزلة التي كانت قديمًا تؤدي إلى انشعاب اللغة إلى لهجات ثم إلى انفصال هذه اللهجات كلغاتٍ مستقلة، تؤدي قوى العولمة، على العكس، إلى تقريب اللهجات، وربما توحيدها في النهاية، أي أنها تعكس المسار القديم للتغير اللغوي! وكل هذه رياح مواتية لتوحيد العربية وإصلاح حالها إن أحسنَّا استغلالها والإفادة منها.
(٢) أمين الخولي: مشكلات حياتنا اللغوية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٧، ص ٨٠.

<<  <   >  >>