للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من قِبل العقل، والنظم من قِبل الحس، ولدخول النظم في طي الحس دخلت إليه الآفة، وغلبت عليه الضرورة، واحتيج إلى الإغضاء عما لا يجوز مثله في الأصل الذي هو النثر.» (١)

وفي فضائل الشعر يقول التوحيدي: «من فضائل النظْم أن صار صناعةً برأسها، وتكلم الناس في قوافيها، وتوسعوا في تصاريفها وأعاريضها، وتصرفوا في بحورها، واطلعوا على عجائب ما استخزن فيها من آثار الطبيعة الشريفة، وشواهد القدرة الصادقة؛ وما هكذا النثر، فإنه قَصَّرَ عن هذه الذروة الشامخة، والقُلَّةِ العالية، فصار بِذْلةً لكافة الناطقين من الخاصة والعامة والنساء والصبيان.» وقال أيضًا: «من فضائل النظم أنه لا يغنَّى ولا يُحدى إلا به … والغناء معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع في معاينة الروح، ومناغاة العقل، وتنبيه النفس، واجتلاب الطرب وتفريج الكُرب، وإثارة الهِزَّة، وإعادة العزة، وإذكار العهد، وإظهار النجدة، واكتساب السلوة، وما لا يُحصى عدُده.» (٢)

ويقول ابن خلدون: «الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصَّل بأجزاء متفقة في الوزن والرَّوي، مستقلٌّ كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به، فقولنا الكلام البليغ جنس، وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصلٌ له عما يخلو من هذه، فإنه في الغالب ليس بشعر. وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصلٌ له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل. وقولنا مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة؛ لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يَجرِ منه على أساليب الشعر المعروفة، فإنه حينئذٍ لا يكون شعرًا، إنما هو كلامٌ منظومٌ لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور.» (٣) ويقترب ابن خلدون كثيرًا من الفكرة الحديثة عن خصوصية لغة الشعر واختلافها الكيفي المقصود


(١) أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، صححه وضبطه أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، بلا تاريخ، الجزء الثاني، ص ١٣٢ - ١٣٤.
(٢) الإمتاع والمؤانسة، الجزء الثاني، ص ١٣٥ - ١٣٦.
(٣) مقدمة ابن خلدون، ص ٤٦٣.

<<  <   >  >>