أن «حالة المعرفة» تعني الاحتفاظ بمادة المعرفة وإمكان استعادتها، الأمر الذي يمنح الذاكرة وآلياتها سطوةً كبرى في «عملية المعرفة». في الثقافة الشفاهية يجد المرء نفسه مدفوعًا إلى أن يصوغ تفكيره بطريقة يمكن تذكرها، إن كان له أن يظفر بمعرفةٍ على الإطلاق، لا مناص للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يصب مادته الذهنية داخل أنماطٍ حافزةٍ للتذكر وقابلة للتكرار الشفاهي، هنالك يتعين عليه أن يجبل مادته في أنماطٍ ثقيلة الإيقاع، متوازنة، أو في جمل متكررة أو متعارضة أو مسجوعة، أو في ثيماتٍ ثابتة، أو في أمثالٍ رنانة سهلة الترديد. تهيب الشفاهية بالمرء أن يعتصم بالأوزان والقوافي والأسجاع إن شاء أن يحتفظ بأي مادةٍ ذهنية؛ إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تملي تركيب العبارة وتحدد مجال الفكر الذي يمكن للمرء أن يروده.
لا غرو كان الشعر ديوان العرب، فالوزن «معين للتذكر» Mnemonic Device لا يشق له غبار، ومن ثم كان الشعر أهم مادة ثقافية وعلمية في المجتمع العربي الشفاهي؛ فالشعر هو الباقي في ذاكرة الفرد والقبيلة بعد أن يزول كل نثرٍ ويذهب أدراج الرياح.
يقول ابن قتيبة إن الذي لا يقيد مناقبه وأفعاله بالشعر «شذَّت مساعيه وإن كانت مشهورة، ودرست على مرور الأيام وإن كانت جسامًا، ومن قيَّدها بقوافي الشعر وأوثقها بأوزانه وأشهرها بالبيت النادر والمثل السائر والمعنى اللطيف؛ أخلدها على الدهر، وأخلصها من الجحد، ورفع عنها كيد العدو، وغض عين الحسود». فليس الشعر معيارًا للحياة وحسب، وإنما هو كذلك معيارٌ لتجاوز الموت؛ ذلك أنه يضمن الخلود. (عيون الأخبار: ٢/ ١٨٥). (١)
والحق أن النحاة اعتمدوا على الشواهد الشعرية بالدرجة الأساس في تقعيد القواعد، وكان رائدهم في ذلك سيبويه نفسه؛ فقد ذهب سيبويه إلى أن رواية الشعر أدق من رواية النثر، وتذكُّر المنظوم أيسر من تذكُّر المنثور، وأن احتمال التغيير والتبديل في الشعر أقل من احتماله في المروي من النثر؛ لحرصهم على تصوير الأساليب العربية في أدق صورها.
إن النحاة لمعذورون في اعتقادهم بأن الشعر هو المادة اللغوية التي يمكن الاطمئنان إلى صحتها وصحة روايتها، ما دام الوزن والقافية يعينان الذاكرة ويضبطان الرواية
(١) أدونيس: كلام البدايات، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٨٩، ص ١٤.