للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ضبطًا تلقائيًّا، غير أن هذا لا يعفيهم من مسئولية الخطأ الجسيم في استخلاص قواعد «اللغة العامة» من شواهد «لغةٍ خاصة»! يُطْبِق علماء اللغة المحدثين على أن لغة الشعر، على دقة روايتها، لا يصح أن تكون المصدر الذي تُستخْلَص منه قواعد لغةٍ من اللغات، لكأن النحاة في ذلك يعملون بمنطق جحا إذ وقع منه درهمٌ على رصيفٍ معتم فذهب يبحث عنه على الرصيف الآخر لأنه جليٌّ مضاءٌ بنور المصابيح! فالصبغة الشعرية في النحو العربي مسئولة مسئوليةً مباشرة عما تعانيه قواعد النحو من اضطراب، وعن ذلك العنت في توجيه القواعد والآراء والتخريجات الذهنية.

لم يكن لدى أحدٍ من النحاة أي شك في أن الشعر هو المادة اللغوية الصالحة للاستشهاد؛ لأن صورة المنظوم، كما جاء في «الإمتاع والمؤانسة»، محفوظةٌ وصورة المنثور ضائعة، ولأن الشواهد لا توجد إلا في الشعر، والحجج لا تؤخذ إلا منه. أعني أن العلماء والحكماء والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون: «قال الشاعر» و «هذا كثير في الشعر» و «الشعر قد أتى به»؛ فالشاعر على هذا هو صاحب الحجة، والشعر هو الحجة، (١) وفي «المقدمة» يقول ابن خلدون «واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفًا عند العرب؛ ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلًا يرجعون إليه في الكثير من علوهم وحكمهم.» (٢)

لكن هذا الإعذار لهم، كما يقول د. محمد عيد، لا يمنع من ذكر المآخذ التي توجه إلى صبغ النحو بالصبغة الشعرية، والصحيح في الدراسة الاعتماد على النثر أساسًا باعتباره الممثل الصحيح لاستعمال اللغة. لقد فرض النحاة نتائجهم التي استقرءوها من لغة الشعر على كل استعمالٍ للغة الفصحى، «وترتب على ذلك كثرة القواعد وتعددها وتعدد الآراء حولها، وتفرع عليه الحكم بالضرورة والندرة والشذوذ؛ إذ تذكر القاعدة العامة مما يشمل الشعر والنثر، ثم تدل نصوص الشعر على ما لا يتفق معها؛ فتذكر قاعدة أخرى بجوارها، أو تنفرد بعض نصوص الشعر بما يخالف القاعدة، ولا تتوافر النصوص التي تؤيد اطرادها؛ فيتفرع على القاعدة العامة آراء أو استعمالات في شكل تنبيهات


(١) أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ج ٢، ص ١٣٦.
(٢) مقدمة ابن خلدون، ص ٤٦٠.

<<  <   >  >>