للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فتقول: إذا أجازوا نحو هذا ومنه بدٌّ وعنه مندوحةٌ، فما ظنك بهم إذا لم يجدوا منه بدلًا ولا عنه مَعدِلًا، ألا تراهم كيف يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على تركها، ليُعِدَّوها لوقت الحاجة إليها، فمن ذلك قوله:

قد أصبحتْ أمُّ الخيارِ تدَّعي … عَلَيَّ ذنبًا كلُّه لم أصنعِ

أفلا تراه كيف دخل تحت ضرورة الرفع، ولو نصب لحفظ الوزن وحمى جانب الإعراب من الضعف! وكذلك قوله:

لم تتلَفَّع بفضل مئزرها … دَعدٌ ولم تُغْذَ دعدُ في العُلَب

كذا الرواية بصرف «دعد» الأولى، ولو لم يصرفها لما كسر وزنًا، وأمن الضرورة أو ضعف إحدى اللغتين.» (١)

وجاء في «الأشباه والنظائر»: «قال أبو حيان: يعْنُون بالضرورة أن ذلك من تراكيبهم الواقعة في الشعر، المختصة به، ولا يقع في كلامهم النثري، وإنما يستعملون ذلك في الشعر خاصة دون الكلام، ولا يعني النحويون بالضرورة أنه لا مندوحة عن النطق بهذا اللفظ، وإنما يعنون ما ذكرناه، وإلا كان لا توجد ضرورة؛ لأنه ما من لفظ إلا ويمكن الشاعر أن يغيِّره.» (٢)

ثم جاء ابن مالك في القرن السابع الهجري، فلمس فكرة التفريق بين ما هو «خاص بالشعر» وما هو «ضرورة»؛ فجعل الضرورة ما ليس للشاعر عنه مندوحة، وناقش الكثير من ظواهر الشعر التي حكم النحاة عليها بالضرورة فرفض أن يكون الشاعر مضطرًّا إليها، وبيَّن ما كان يمكن للشاعر أن يقوله بدل الضرورة المزعومة، وأنه مختار ولا ضرورة تُلجِئه إلى ذلك، مثال ذلك دخول «أل» على المضارع في قول الشاعر:

ما أنت بالحكم التُّرضى حكومتُه … ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

وقال إن مثل هذا غير مخصوص بالضرورة؛ لتمكن الشاعر أن يقول: ما أنت بالحكم المرضي حكومته؛ هذا إذن شيء «خاص بالشعر» وليس «ضرورة»، ولو أن من جاءوا بعد


(١) الخصائص، ج ٣، ص ٦٢ - ٦٣.
(٢) السيوطي: الأشباه والنظائر، حيدر أباد، ط ٢، ١٣٥٩ هـ، ج ١ ص ٢٢٤.

<<  <   >  >>