للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ابن مالك توسعوا في تطبيق هذه الفكرة لأمكنهم عزل الكثير مما سُمِّي «ضرورة» على أنه «خاص بالشعر»، ولأمكن لدراسة الشعر أن تستقل بخصائصها كليًّا عن دراسة النثر، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، وظل النحاة على مذهبهم في الضرورة؛ ذلك أن تمييز لغة الشعر عن لغة النثر يفتح بابًا لإعادة النظر في الطريقة التي تمت بها دراسة نصوص الكلام العربي جملة، وما كان تقليد المتأخرين للمتقدمين يسمح بهذه المراجعة. (١)

وفي شرح التلخيص للسبكي نجد التفاتًا ذكيًّا إلى طبيعة «الضرورة» وطبيعة الاختلاف بين لغة النثر ولغة الشعر. كان شراح التلخيص يَعدُّون مخالفة القاعدة النحوية المطردة ضعفًا في التأليف وبُعدًا عن الفصاحة، ومن أمثلة ذلك «الإضمار قبل الذكر» لفظًا ومعنى، كما في قول الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ … وحُسن فعلٍ كما يُجزى سنِمَّار

يرى السبكي أن هذا قد يكون ضعفًا في النثر، أما في لغة الشعر فالأمر يختلف: «لأن ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز فقد تقوِّي ما هو ضعيف، فعلى البياني أن يعتبر ذلك، فربما كان الشيء فصيحًا في الشعر غير فصيح في النثر.»

ومن يتأمل البيت المذكور يدرك صواب السبكي فيما ارتآه، فحين انصهرت مثل هذه «المجاوزة» في سبيكة الشعر لم نكد نُحسُّ أي نشوز أو اختلال، وربما أطربتنا المجاوزة ذاتها ووجدنا لها وقعًا جماليًّا معينًا. وجدير بالذكر أن الإضمار قبل الذكر لم يعد مستنكرًا حتى في لغة النثر بعد أن وفد علينا بكثرةٍ في الأساليب الأجنبية هذه الأيام. (٢)

لا لم تكن فكرة «الضرورة» إلا ضرورة النحاة أنفسهم في دراستهم وقد جبهتهم لغة الشعر بما لا يتفق مع قواعدهم. انظر إلى سيبويه نفسه كيف اغترب عن بيت عمر بين أبي ربيعة:

صددْتِ فأطولتِ الصدود وقلَّما … وِصالٌ على طول الصدود يدوم


(١) المستوى اللغوي، ١٤٠ - ١٤٢.
(٢) مثال ذلك: «بعد لقائه بمدير الوكالة صرح الرئيس … »، «غداة وصوله إلى المطار، وزير الثقافة يعلن … »

<<  <   >  >>