للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من آليات الدراسة الأسلوبية للعمل الأدبي «ملاحظة مواطن الخروج ومناهضة الاستعمال الجاري عليه الكلام، ثم محاولة الكشف عن العلل الاستطيقية (الجمالية/ الفنية) الباعثة على ذلك، ويعد الألماني ليو سبتزر رائدًا في هذا الباب، فهو يبحث عن روح الكاتب أو الشاعر في لغته على ما تظهر في الخصائص التي يخرج فيها عن المعايير اللغوية الشائعة ويتجاوزها، بحيث يلوح منها الطريق التاريخي الذي يختطه والتغير الطارئ عليه من روح العصر والثقافة في الصورة اللغوية الجديدة. لقد اعتُبرت المخالفات النحوية على أيدي النقاد جميعًا هفوات، ولكن الضرورة الشعرية باعتبارها خروجًا على الاستعمال المألوف للغة وما تقتضيه المعايير المقررة في النظام اللغوي؛ تكشف عن الخصائص الفردية التي بها يظهر روح الشاعر أو الأديب، فمغالبة القوة التي يصنعها اطراد العادة اللغوية لا يمكن تفسيره إلا بالتسليم بأن قوةً مناهضةً بعثت على النشاط الجديد الذي به خالف التعبير ما استقر عليه الاستعمال. إن اطراد الاستعمال اللغوي من شأنه أن يصبح قوة تتسلط على كل تعبير ناهض؛ إذ تتكون العادة اللغوية التي عليها يطَّرد التعبير، وتستقر في عقل الجماعة اللغوية، فلا ينفك عنها أي تعبير جديد؛ ولهذا يلزم في بحث الظاهرة اللغوية الكشف عن العلل الداخلية التي تستبطنها. فأي دراسة لا تنطلق في بحث الظاهرة من داخلها تقع في الأوهام التي تقع فيها أي دراسة لا تقوم على الموضوعية؛ لأنها لا تظهر على شيء من حقيقة الموضوع المبحوث»، (١) «وإذا كان الشاعر يناهض الأعراف اللغوية المستقرة؛ فلأن هذه الأعرف لم تعد في خدمة الأغراض التي يسعى إليها الشاعر، فالواقع في الوهم أن الشعراء يتجنون على اللغة، والصحيح أن الضرورة الشعرية إنما هي ضرورة تحتِّمها القوانين الداخلية للظاهرة اللغوية، وهي في خدمة هذه القوانين وحدها؛ لأنها إنما تستمد وجودها منها، وأي قوانين أخرى تسبق ميلاد الظاهرة نفسها مردودة لأنها أجنبية، والظاهرة إنما تحمل في باطنها المبدأ الخالق لها.» (٢)

للشعر مناخه اللغوي الخاص، الشعر حيود عن جادة اللغة السوية - لغة النثر؛ لأن للنثر مطلبًا وللشعر مطلبٌ آخر، الشعر يقدم المتأخر (أقيسَ أرى؟ - بالحسن أَعْدى … )، ويؤخر المتقدم (بادٍ هواك - من الموجَعاتِ النجوم)، ويفصل المتصل (وما للسيف إلا


(١) الضرورة الشعرية، ص ٩٤ - ٩٥.
(٢) الضرورة الشعرية، ص ٩٥ - ٩٨.

<<  <   >  >>