للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لأن الضرورة دعت إلى حذف التنوين فلا يتجاوز محل الضرورة. قاعدة: ما لا يؤدي إلى الضرورة أولى مما يؤدي إليها. وخلاصة هذه الأحكام أن للشعر خصائص منها الضرورات، وأن هذه الضرورات ينبغي أن تجتنب، ويجب أن يقتصر فيها على الحاجة فيُقَدَّر بقدرها، وأن يعلم الشاعر أن ما لا يؤدي إلى الضرورة أولى مما يؤدي إليها. (١)

قلنا: إنَّ النحاة لم يحتملوا فكرة وجود مستويين للفصحى، وظنوا أن الشعر لا يعدو أن يكون فنًّا من الكتابة التزم بما لا يلزم في النثر، طموحًا إلى قيمٍ تأثيرية كبرى، فآدَهُ حملُه الثقيل من وزنٍ وقافية، وأَعذَرَه فيما اضطر إليه من ضروب التعثر والظلع اللغوي. وحتى ابن جني في تمجيده للشاعر لم يعْدُ أن مهَّد له عذرًا ونوَّه ببسالته، ولكنه لم يبلغ عمق الظاهرة الشعرية، (٢) لم يفهم ابن جني أنَّ الشاعر ليس بهلوانًا يُوَفَّقُ فيُكْبَر أو يسقط فيُعذَر! «فالشاعر لا يتلقى اللغة تلقيًا سلبيًّا، بل له عليها أثرٌ إيجابي، بطبيعة ما بينهما من علاقةٍ جدلية يتأثر فيها الشاعر باللغة ويؤثر هو كذلك فيها. والضرورة الشعرية يتجلى فيها عمل الشاعر الخلاق من جهة تناوله للغة تناولًا مختلفًا (وإن كان يتم في أحضان اللغة نفسها)؛ فالشاعر يغير في اللغة بحكم ما له عليها من أثرٍ إيجابي تتحقق به المحافظة على روح اللغة ونموها معًا (فاللغة ثبات وتغير وبهما يتحقق للغة شخصيتها وحياتها معًا)(٣)


(١) أبو هلال العسكري: الصناعتين، مطبعة صبيح، ط ٢، بدون تاريخ، ص ١٤٣.
(٢) حاشية الدمنهوري، في: د. أمين علي السيد: في علمي العروض والقافية، دار المعارف، القاهرة، ط ٥، ١٩٩٩، ص ٢٥٥.
(٣) يقول ابن جني في الخصائص: «فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها، وانخراق الأصول بها، فاعلم أن ذلك على ما جَشِمه منه، وإن دل من وجهٍ على جوره وتعسفه، فإنه من وجهٍ آخر مؤذن بصياله وتخمُّطه (كبريائه)، وليس بقاطع دليل على ضعف لغته، ولا قصوره عن اختياره الوجه الناطق بفصاحته، بل مَثَله في ذلك عندي مثل مُجري الجَموح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس حاسرًا من غير احتشام، فهو وإن كان ملومًا في عنفه وتهالكه، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض مُنَّتِه، ألا تراه لا يجهل أن لو تَكفَّر (استتر) في سلاحه، أو أعصم بلجام جواده، لكان أقرب إلى النحاة، وأبعد عن الملحاة، لكنه جشِم ما جشِمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله، إدلالًا بقوة طبعه، ودلالة على شهامة نفسه» (الخصائص: ج ٢، ص ٣٩٣ - ٣٩٤).

<<  <   >  >>