للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالطبيعة طريقةٌ صحيحةٌ للتدليل على الأشياء، واسم صحيح لكل كائن في الوجود، عند الناس جميعًا على السواء. وقد كان هيراقليطس مهتمًّا بتحليل الأسماء لأنها تعبر عنده عن ماهية الأشياء، وتأتي بمشيئة إلهية، إنها «توقيف»، وحي، إلهام.

أما رأي أفلاطون، الذي يضعه - كعادته في محاوراته - على لسان سقراط، فهو محير حقًّا، ويشبه أن يكون وسطًا بين الاصطلاحية والطبيعية: طبيعية معدلة، وربما اصطلاحية معدلة! فالأسماء في نظره لا يمكن أن تعطَى للأشياء على نحوٍ عشوائي كما يتصور الاصطلاحيون، بل ينبغي أن تُسكَّ بمهارةٍ وحذقٍ لكي تؤدي الغرض منها، (١) والغرض منها هو فصل أو عزل الشيء الذي تسميه عن بقية الأشياء وإفراده في عملية الإشارة بشكل دقيق، وذلك بأن يطابق الاسم طبيعة هذا الشيء على نحوٍ ما …

أن يحاكيه بطريقةٍ ما، (٢)

غير أن واضعي الأسماء الأوائل ليسوا سلطة مطلقة، و «التأثيل» (البحث في أصل الكلمات) Etymology ليس طريقًا مأمونًا لتأسيس الحقيقة؛ فواضعو


(١) يقول أفلاطون: نحن لا نقطع الأشياء مثلًا كيفما يحلو لنا، وإنما يتم القطع بالطريقة الطبيعية والآلة الطبيعية لفعل القطع، واستخدام الآلة الطبيعية وفقًا للطريقة الطبيعية هو الذي يجعل الفعل يتم بنجاح، بينما استخدام طريقة غير الطريقة الطبيعية وآلة غير الآلة الطبيعية سيؤدي إلى الفشل، ومثل فعل القطع الاحتراق والثقب والنسج وغيرها من الأفعال، انظر إلى المماثلة بين النسج والتسمية: فالمكوك آلة للنسج، والاسم آلة للتعليم ونقل المعلومات عن المسمى. والذي يصنع المكوك هو النجار، والذي يصنع الاسم هو المشرع، وحين يصنع النجار المكوك فإنه ينظر إلى المكوك الحقيقي أو المثالي، وهو ذلك الشيء المهيأ بصورة طبيعية ليعمل كمكوكٍ، وإذا انكسر المكوك فإن النجار حين يصنع مكوكًا جديدًا لا ينظر إلى المكوك المكسور، بل ينظر دائمًا إلى المكوك الحقيقي أو المثالي ويحاكيه، وسواء كان المكوك صغيرًا أو كبيرًا، أو كان النسيج من القطن أو الكتان فإن صورة هذا المكوك المثالي هي التي ينبغي أن يجسدها النجار في المادة التي يصنع منها المكوك، وهذا المبدأ يصدق على جميع الآلات الأخرى؛ حيث يجسد الحرفي الماهر في الآلة التي يصنعها الصورة الحقيقية لهذه الآلة التي تلائم العمل المقصود إنجازه بصورةٍ طبيعية، بغض النظر عن المادة التي تصنع منها؛ ذلك أن هذه المادة قد تختلف من مكان لآخر ومن حرفي لآخر. (أفلاطون: محاورة كراتيلوس، ترجمة ودراسة: د. عزمي طه السيد أحمد، منشورات وزارة الثقافة، المملكة الأردنية الهاشمية، عمان، ١٩٩٥، ص ٣٧، ٤٧)
(٢) يقول أفلاطون إن هذه الكيفية التي يتم صنع الآلة وفقًا لها نجدها أيضًا في الأسماء، فمطلق الأسماء أو المشرع يستخدم الحروف والمقاطع التي هي المادة التي تتكون أو تتركب منها الأسماء، ويضع أو يطلق كل الأسماء في ضوء الاسم المثالي، إذا كان يريد أن يكون مطلقًا للأسماء بالمعنى الحقيقي. يكون إطلاق الأسماء صحيحًا سواء استخدم المشرع الحروف والمقاطع، بحسب اللغة اليونانية أو بحسب اللغات غير اليونانية الأخرى، ما دام الاسم يعطي الصورة الحقيقية والصحيحة. ولكن ما هي صفات الاسم المثالي الذي يطلق المشرع الأسماء في ضوئه وبالنظر إليه؟ إن هذا الاسم هو الذي تتحقق فيه كل صفات الاسم في صورتها الكاملة، وهو الذي يحقق الغرض منه على أكمل وجه أيضًا، فإذا عرفنا هذه الصفات أو الشروط وراعيناها ونحن نطلق الأسماء على الأشياء، كان إطلاقنا للأسماء عندئذٍ صائبًا وملائمًا. تكون التسمية صائبة إذا كانت تعبر عن طبيعة مسماها تعبيرًا تامًّا، وهو عمل تخصصي دقيق، يقوم به عالم التأصيل المعجمي (التأثيل)؛ إذ يرد الأسماء إلى أصولها ويعرف معانيها رغم ما قد يكون جرى على الاسم من تغييرات مختلفة، وهو في ذلك كالطبيب الذي يستطيع تمييز الدواء ومعرفته ولو كانت له مظاهر مختلفة … حاول أفلاطون وضع نظرية في صواب الأسماء يمكن تسميتها «نظرية المحاكاة الطبيعية»، فهو يحلل المركب إلى أجزائه حتى يصل إلى الأجزاء الأولية، فيحلل الكلام إلى جمل وعبارات، ونحلل العبارات إلى أسماء، والأسماء إلى أسماء أبسط، وهكذا نتابع التحليل إلى أن نصل إلى أسماء يقف عندها التحليل، وتكون هذه عناصر لكل الأسماء والجمل الأخرى، ولا يمكن أن يفترض أنها مكونة من أسماء أخرى. أطلق أفلاطون على هذه الأسماء العناصر الأولية أو الأسماء الأولية. والأسماء الأولية الصائبة هي تلك التي تحاكي الأشياء على نحوٍ صحيح .. وما يقوم به المشرع هو أن يصنف الأشياء ويحدد طبائع كل فئة منها ويطبق على كل منها الحروف التي تماثلها أو تحاكيها في طبيعتها، وقد تكون المحاكاة بحرف واحد أو بعدة حروف، فبهذا نكوِّن المقاطع، ومن المقاطع نكوِّن أسماء وأفعالًا، وهكذا نصل في النهاية من مجموعات الأسماء والأفعال المؤتلفة إلى لغة واسعة ومناسبة وتامة. (المرجع السابق، ٤٧ - ٥٠)

<<  <   >  >>