كثير من ألفاظ كل لغة نلحظ تلك الصلة بينها وبين دلالتها، ولكن هذه الصلة لم تنشأ مع تلك الألفاظ أو تولد بمولدها، وإنما اكتسبتها اكتسابًا بمرور الأيام وكثرة التداول والاستعمال، وهي في بعض الألفاظ أوضح منها في البعض الآخر، ومرجع هذا إلى الظروف الخاصة التي تحيط بكل كلمة في تاريخها، وإلى الحالات النفسية المتباينة التي تعرض للمتكلمين والسامعين في أثناء استعمال الكلمات. فإذا تصادف أن عُني أحد المتكلمين بأصوات لفظٍ من الألفاظ، واسترعى انتباهه أكثر من غيره، لا يلبث أن يعقد الصلة الوثيقة بينه وبين دلالته، ويتصور نوعًا من المناسبة بين تلك الأصوات وما تدل عليه، ويحاول نقل شعوره إلى غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فإذا تصادف أيضًا أن أحس فريق من الناس نفس الإحساس، بدأت عملية ذهنية أخرى هي الربط بين هذه الأصوات وأشباهها من الكلمات الأخرى؛ لأن الذهن الإنساني يميل إلى التجميع والتعميم، وتلتقي تلك العملية بعمليةٍ نفسية أخرى هي التي تسمى بتداعي المعاني، أي أن المعنى حين يخطر في الذهن يدعو ما يشبهه أو يقاربه، وهنا قد يخطر في الذهن فكرة الربط بين مجموعة من الألفاظ المتشابهة المتقاربة، بمجموعة من المعاني المتشابهة أو المتقاربة، ويترتب على هذا أن يشيع بين أبناء اللغة نوعٌ من الوهم يشعرون معه بوثوق الصلة بين الألفاظ والمدلولات.» (١)
وقد عرض الأستاذ العقاد لمسألة المحاكاة الصوتية في كتابه «أشتاتٌ مجتماتٌ في اللغة والأدب»، تعقيبًا على رأي للأستاذ رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) في اختصاص بعض الحروف بمعانٍ معينة؛ فالفاء للإبانة والوضوح، والضاد للشؤم، والحاء للمعاني الشريفة القوية. يقول العقاد:«كان الأستاذ برادة يبحث عن أثر الحروف في السمع وعلاقة ذلك بالفصاحة والإقناع، ويعتقد أن الحاء أظهر الحروف أثرًا في الإيحاء بمعاني السعة، حسية كانت أو فكرية، ويعمم الحكم فيسوِّي بين موقع الحاء في أول الكلمة وموقعها في وسطها أو آخرها، ويتمثل بكلمات الحرية والحياة والحكم والحكمة والحلاوة … ولقد كان زميله الهلباوي على عادته في الفكاهة والدعابة يسخر من فلسفته «الحائية» كما يسميها، ويقول إن اسم «الحمار» مبدوء بالحاء، وإن أَشيَع اللفظات على ألسنة النادبات يتردد فيها حرف «الحاء» … إلا أننا كنا نخالف الأستاذ برادة في تعميم الحكم على الحرف بغير تفرقة بين مواقعه في الكلمات ومواقعه في السماع، وقد ضربنا
(١) د. إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٩١، ص ٧١ - ٧٢.