للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومع تقديرنا العميق لعبقرية ابن جني ونظره اللغوي الثاقب، فليس يخفى ما في بعض أمثلته من التكلف والتعسف، وتمحُّل العلاقة حيث لا علاقة. يقول د. إبراهيم أنيس: «ألست ترى فيما تقدَّم قدرًا كبيرًا من التكلف والتعسف؟ خذ مثلًا المادة «سمح» التي لم نعمد إليها عمدًا، أو قصدنا إليها قصدًا، وإنما كانت أول ما صادفنا حين فتحنا الجزء الأول من قاموس المحيط، أليس منها السماحة التي هي لين ودعةٌ وإشراق؟ ولكن منها أيضًا «المسح» وهو إزالةٌ ومحو، ومنها «حمس» بمعنى اشتد وصلب في القتال، ومنها «السحم» الذي هو السواد ولا إشراق في السواد، ثم منها «حسم» بمعنى قطع، والحسوم الشؤم، الليالي الحسوم التي تحسم الخير عن أهلها! فإذا كان ابن جني قد استطاع، في مشقة وعَنَت، أن يسوق لنا للبرهنة على ما يزعم بضع مواد من كل مواد اللغة التي يقال إنها في معجم صحاح اللغة تصل إلى أربعين ألفًا، وفي معجم لسان العرب تكاد تصل إلى ثمانين ألفًا، فليس يكفي مثل هذا القدر الضئيل المتكلَّف لإثبات ما يسمى بالاشتقاق الكبير.» (١) «هكذا نرى أن ابن جني كان ممن يؤمنون إيمانًا قويًّا بوجود الرابطة العقلية المنطقية بين الأصوات والمدلولات أو ما يسميه بعض المحْدَثين بالرمزية الصوتية، بل لقد غالى ابن جني ومعه الثعالبي صاحب فقه اللغة، إذ جعلا مجرد الاشتراك في أصلين فقط من الأصول الثلاثة دليلًا على الاشتراك في معنًى عام لبعض الكلمات، فيقرر أن المعنى العام للتفرقة يكون بصوتي «الفاء والراء» والمعنى العام للقطاع يكون «بالقاف والطاء»، إلى غير ذلك من تخيلاتٍ وتأملاتٍ تشبه أحلام اليقظة عند رجل اشتد ولعه وإعجابه باللغة العربية؛ فتصور فيها ما ليس فيها، وأضفى عليها من مظاهر السحر ما لا يصح في الأذهان ولا تتصف به لغةٌ من لغات البشر.» (٢)

ويرفض البحث اللغوي الحديث هذا كله وإلا فإنه يجب على هذا أن نتصور نوعًا من الارتباط بين حروف الفعل «أدرك» وحروف الفعل «فهم» لأن لكل منهما نفس الدلالة؛ وعليه من جهة أخرى أن ننكر من اللغة تلك المئات من الكلمات التي اشتركت لفظًا واختلفت معانيها اختلافًا بيِّنًا (من قبيل: ضرب، فصل، عين … ).

وفي كتابه «دلالة الألفاظ» يقول د. إبراهيم أنيس: «الأمر الذي لم يبدُ واضحًا في علاج كل هؤلاء الباحثين هو وجوب التفرقة بين الصلة الذاتية والصلة المكتسبة، ففي


(١) من أسرار اللغة، ص ٥٦ - ٥٧.
(٢) من أسرار اللغة، ص ٥٥ - ٥٦ ..

<<  <   >  >>