للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول د. لطفي عبد البديع في كتابه «عبقرية العربية»: «والدلالة اللغوية إنما تُغاير الدلالة العقلية في أنها دلالة ذاتية على معنى أن اللغة تختضن دلالتها في كيانها … والدلالة بعد ذلك لا تتم إلا بمخاطَبٍ ومتكلمٍ يتواضعان على قدرٍ مشترك من الفهم المبني على مسلَّماتٍ بعينها، والمتكلم مهما أوتي من بيانٍ عاجزٌ عن أن ينقل إلى سامعيه ما يريد نقله إذا لم يكونوا على بينةٍ مما يقول … فكل لغة تئول إلى مسلماتٍ تنزل منزلة القيم التي تضفي على الدلالات حجيةً يتعاطاها أبناء اللغة فيما بينهم وربما عزبت (١)

بدأ النحو على أيدي العرب، وانتهى في أيدي الموالي، كان النحو في بدايته الأولى عربيًّا خالصًا، وكان النحاة الأوائل عربًا، ومؤسس النحو أبو الأسود الدؤلي عربيًّا خالصًا، وكان الغرض من النحو في الأصل، وهو ما كان ينبغي ألا يخرج عنه فهم النحو، وضع أسسٍ للأعاجم ليتعلموا العربية، عساهم أن ينحوا «نحو» العرب في كلامها، ولم يقصد به أن يكون سلطانًا على أهل العربية فيما ينطقون به، فهم في غنًى عنه لأنهم يتلقَّون اللغة تلقيًا أول (First hand) بحكم عيشهم فيها ومعاشرتهم لها. يروى أن رجلًا من الموالي الفرس، هو سعد من أهل زندخال، سأله أبو الأسود: «ما لك يا سعد؟ لم لا تركب؟»، فقال له الرجل: «إن فرسي ضالع»، أراد ظالعًا، فضحك بعض من حضره، فقال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا إخوة، فلو عملنا لهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول. (٢)

لم يكن الغرض من النحو وضع قواعد لتقييد اللغة؛ فقد كان واضعو النحو الأوائل على بينة من أن اللغة لا تقيد، اللغة في حياة مستمرة ونمو متصل ولا يمكن فرض قواعد جامدة على شيء حيٍّ متغير كاللغة، اللغة لا تقيد بل تواكب أو تلاحق وصْفيًّا واستقرائيًّا فيما تتخذه هي من اطراداتٍ خاصة بها.

ومنذ البداية ظهر لعلماء العربية إفلاس النحو، وشعروا بالبون الواسع بين اللغة والنحو لصعوبة السيطرة على اللغة بقوانين جامعة لأطرافها، أما أبو الأسود فوضع باب


(١) عزبت: بعدت وخفيت.
(٢) د. لطفي عبد البديع: عبقرية العربية في رؤية الإنسان والحيوان والسماء والكواكب، كتاب النادي الأدبي الثقافي ٣٤، جدة، ط ٢، ١٩٨٦، ص ٢١ - ٢٣.

<<  <   >  >>