للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويعايرون العربية بمعيارٍ غير عربي، وصدق فيهم قول أبي عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: «ويلك يا عمرو، إنك ألْكن الفهم … »، لاحظ أنه يصف عقله (أي منطقه) باللكنة، أي بالافتقار إلى الصبغة العربية؛ لأنه حفظ المنطق الأرسطي وغاب عنه المنطق العربي.

وهناك أبيات مشهورة للشاعر عمار الكلبي تترجم هذه الخصومة وتعبر عن جوهر هذا الصراع بقوة وبراعةٍ منقطعة النظير. يقول عمار الكلبي وقد عاب أحد النحاة بيتًا من شعره.

ماذا لقِينا من المستعربين ومن … قياس نحوِهم هذا الذي ابتدعوا

إن قلت قافيةً بِكرًا يكون بها … بيتٌ خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا

قالوا لحنتَ وهذا ليس منتصبًا … وذاك خَفْضٌ وهذا ليس يرتفعُ

وحرضوا بين عبد الله من حمقٍ … وبين زيدٍ فطال الضربُ والوجعُ

كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم … وبين قومٍ على إعرابهم طُبعوا

ما كل قولي مشروحًا لكم فخذوا … ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا

لأن أرضي أرضٌ لا تُشَبُّ بها … نارُ المجوس ولا تُبْنَى بها البيعُ

تُصوِّر هذه الأبيات، ببراعة، عمق الخلاف بين الطرفين: الشعراء قومٌ مطبوعون على فصاحتهم، والنحاة قوم متطبعون يحتالون لمنطقهم، الشاعر عربي الدم نشأ في أرض عربية غير أعجمية لا تشب بها نار المجوس ولا تبنى البيع (إشارة إلى صراع الثقافتين)، «الشاعر يتكفل بحياة اللغة وديمومتها، والنحوي يريد السيطرة على اللغة ولا يستطيع ملاحقتها في تدفقها المستمر، فيسعى إلى تجميدها وإمساكها على وضعٍ لا يتغير، الشاعر يبحث عن مطالبه والنحوي يبحث عن مطالبه، وهي مطالب لا يتم بينها اللقاء.» (١) وهذه هي المغالطة النحوية المتأصلة منذ البداية، والتي جمدت اللغة وشلَّت حركتها: قَلْبُ الأوضاع، وضع العربة أمام الحصان، رفع المعيارية على الوصفية.

وفي مقاله «النحو والمنطق الأرسططاليسي» يقول د. علي الوردي: «وبهذا صارت القواعد النحوية في وضعها النهائي معقَّدة أو متشعبة جدًّا، فابتعدت عما تقتضيه السليقة الفطرية من بساطة ووضوح. والذي يدرس القواعد النحوية الموجودة بين أيدينا


(١) عباس محمود العقاد: اللغة الشاعرة، منشورات المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، بدون تاريخ، ص ١٦ - ١٧.

<<  <   >  >>