للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تترجم هذه الأقوال للفرزدق جوهر الصراع واختلاف الوجهة. لم تكن قوالب النحو وقضبانه مما يعني الفرزدق، بل كان يتخذ مستوًى صوابيًّا آخر، الفرزدق من الشعراء (أمراء الكلام، الذين يحتج بهم ولا يُحتج عليهم)، وقد كان يحس بعمق الأزمة وهول الخطر الذي يحدق بالعربية في تلك الحقبة: ثمة مقولاتٌ غريبة تريد أن تلتف على العربية؛ كي تؤدبها وتسلكها على اطراد واحد، ثمة لواء للفصاحة يوشك أن يُنتزع، لكأنه يدفع عن اللغة غازيًا أجنبيًّا يريد أن يأسرها لا أن يفهمها!

وقد كان أحرى بالنحوي أن يقف من الفرزدق موقفًا آخر، كموقف أبي عمرو بن العلاء فيما سبق، وهو أن يأخذ أبيات الفرزدق على أنها مادة لغوية يضيفها إلى ما لديه؛ لكي يصف ويستقرئ ويستخلص منها ما يكمن فيها من اتجاهات وميول لغوية، لا أن يقف هذا الموقف المعكوس فيعايرها بما لديه من قواعد «مقيسة على الأكثر وتسمى ما خالفها» خطأ (لا لغات كما كان أبو عمرو يسمي).

كان عيسى بن عمر النحوي يخطِّئ النابغة في قوله:

فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ … من الرقش في أنيابها السم ناقع (١)

ويقول: موضعها ناقعًا، وللأستاذ العقاد رد بليغ على هذه التخطئة وعلى الأساس الذي تقوم عليه التخطئة، يقول العقاد: «وإن هذه الموسيقية لتعلم النحاة أحيانًا كيف ينبغي أن يفهموا الشعر في هذه اللغة الشاعرة؛ لأن المزية الشعرية في قواعد إعرابها أسبق من المصطلحات التي يتقيد بها النحاة والصرفيون … فينسى النحاة أن علامة الرفع في القافية تدل على الصفة وتعطي الكلمة معناها الذي يلائم الوزن ويلائم الإعراب، وما أخطأ النابغة حين قال «ضئيلةٌ ناقعٌ في أنيابها السم» … ولا هو بمخطئ في تأخير الصفة إلى مكان القافية؛ لأنها - وهي مرفوعة - لا تكون إلا صفة موافقة لموصوفاتها أينما انتقل بها ترتيب الكلم المنظوم.» (٢)

الخطأ هنا خطا فهم قبل أن يكون خطأ لغة، والاختلاف هنا اختلاف ثقافة واختلاف منطق، فالنحويون الموالي كانوا يقيسون اللغة بمقياسٍ آخر غير لغوي،


(١) المصدر نفسه، ص ٨٤.
(٢) ساورتني: واثبتني، والرقش جمع أرقش رقشاء وهو المنقط من الأفاعي.

<<  <   >  >>